وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين

     .. سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر". **** وعن أبي هريرة و أبي سعيد رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «إن الله اصطفى من الكلام أربعا: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر *** قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بخ بخ لخمس ما أثقلَهن في الميزان: لا إله إلا الله، وسبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، والولد الصالح يُتوفَّى للمرء المسلم فيحتسبه ***

ad

الأحد

معركة أجنادين

بعد فتح بُصرى، انتقل خالد مع جيش أبي عبيدة إلى دمشق لحصارها، وترك جيش شرحبيل في بصرى، وعاد جيش يزيد إلى البلقاء في الأردن، وعاد عمرو بجيشه إلى جنوب فلسطين.
وكان رد فعل الروم على هزيمة بصرى ذكيًّا وعلى محورين: الأول: تحركت قوة من الروم تقدر بحوالي 20 ألفًا بقيادة قائد رومي شهير هو وردان من حامية حمص لقتال المسلمين في بصرى، أي: لقتال جيش شرحبيل 7 آلاف مجاهد، فاختار وردان حرب جيش شرحبيل لأكثر من سبب:
أحدها: أنه جيش مفرد، وأقل عددًا.
ثانيًا: وأنه لو انتصر عليه فسيحاصر جيش خالد وأبا عبيدة من الجنوب، وتصبح لدى حامية دمشق فرصة أن تخرج من أسوارها العالية لقتالهم.
ثالثًا: أنه قد يسترد بصرى.
رابعًا: رفع معنويات الجيش الرومي؛ لأن سقوط بصرى كان لها أثر شديد على نفسية الجيش؛ لأنها تمثل أهمية دينية خاصة.
تحرك رومي غير مدروس:
تحرك وردان من حمص من خلال الطرق الداخلية، عن طريق بعلبك وشمال فلسطين، لكي يصل إلى بصرى، بحيث لا يلحظ جيش المسلمين في دمشق مرور هذا الجيش، وتحجبه الجبال اللبنانية في ذلك المكان، وهذا ما حدث، ولكن عيون الجيش الإسلامي كانت يقظة، فعرفت بتحرك جيش (وردان) بمجرد خروجه من منطقة الجبال، وأنه يتحرك نحو جيش شرحبيل في بصرى.
المحور الثاني: كانت جِلَّق تضم مجموعة من القوات الرومية، فانضم إليها عدد كبير من قوات الجيش الرومي من أنطاكية عن طريق البحر الأبيض المتوسط (بحر الروم)، كما جاءت قوات أخرى من الأراضي الشامية وتجمع الكل تحت قيادة تذارق في جلق، وكان هذا الجيش قوامه 70 ألف مقاتل أو يزيد، إلا أن تحركه ذلك كان غير مفهوم!! وليس له هدف واضح، ولم يكن مدروسًا، إذ إن جيش المسلمين المواجه لهم (3 آلاف) مجاهد بقيادة عمرو بن العاص، فليس منطقيًا أن يحُشَد 70 ألف مقاتل لمواجهة 3 آلاف!! ولم يكن موجهًا لغيره من الجيوش الإسلامية، لأنهم مكثوا مدة طويلة لم يحاربوا أحدًا فيها!!.. فكان تحركًا غير مدروس، وإنما تحرك أملته عليهم الخبطات الإسلامية، لوجود أكثر من جيش إسلامي في الشام.
وهذا أمر يتكرر في التاريخ، فقد وجدناه في الجيوش العربية في نكسة 67 إذ كانت تحركات الجيوش غير مدروسة على نحو يوحي بأن من يحرك هذه الجيوش لا يدري إلى أين هي ذاهبة؟ وأين يجب أن تتجه؟
وصلت أخبار وردان إلى جيش أبي عبيدة وخالد بن الوليد في دمشق، وأنه يلتف حول الجيش الإسلامي في بصرى، وأن تذارق جمع في جلق 70 ألفًا.
طرح خالد الموضوع كاملاً على أبي عبيدة (أمامهم 3 جيوش رومية قوية: جيش خلف أسوار دمشق، وجيش وردان المتجه إلى بصرى، وأكبر هذه الجيوش في جلق) كما وصلتهم أخبار أن نصارى العرب بدءوا في الانضمام إلى جيش تذارق الموجود في جلق.
فكان رأي أبي عبيدة أن يتركا دمشق، ويذهبا لمعاونة جيش شرحبيل، فتتحد الجيوش الثلاثة، لمقاتلة (وردان)، وهو رأي له وجاهته، أما خالد فقد رأى أنهم لو ذهبوا لشرحبيل في بصرى، لتبعتهم حامية دمشق عن قرب، (فطنة خالد في الحرب تتضح في مثل تلك المواقف)، وأدرك أنهم سيكونون بذلك بين الجيشين، ويرى أن جمع الروم الأكبر الموجود في (جلق) تحت قيادة تذارق يجب أن يُواجَه، وأن تُرسل رسالة إلى شرحبيل لتحذيره من جيش وردان، وألا يلتقي معه (أي يهرب من ملاقاته) ويقابلهم في أجنادين، حتى ينتقلوا إلى جلق معًا، ويأتيهم جيشا يزيد وعمرو في نفس المنطقة، أي أنه رأى أن تجتمع الجيوش الخمسة في أجنادين، حتى تنطلق إلى مواجهة جيش تذارق في جلق، فوافقه أبو عبيدة  قائلاً: "هذا رأي حسن، فأمضه على بركة الله، ونسأل الله بركته".
يخرج خالد بن الوليد، يخطب خطبة في الجيش الإسلامي؛ فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: "أما بعد، فإني قد بلغني أن طائفة من الروم نزلوا بأجنادين، وأنهم استعانوا بأناس قليل من أهل هذا البلد، على كثرتهم، وذلك استقلالاً لما معهم من الكثرة ذلاًّ"..
(لديه نظرة ثاقبة للروم، أنه يجب أن يفهم طبيعة عدوه، وكيف بنا اليوم، ونحن الكثرة نستعين اليوم بقلة من غيرنا، بل قلة من أعدائنا لأمر من أمورنا، نستعين بالخبراء اليهود والأمريكيين!!، ورد في أحد التقارير أن أي أمة من الأمم تستطيع أن تجند 10بالمائة من شعبها لحمل السلاح، وهذا العدد إذا أخذ من الأمة الإسلامية (ألف مليون)، يصل إلى (100مليون)، إذا حاربوا اليهود، فلا بد أنهم منصورون! ولكننا كثرة تستعين بالقلة، ولا حول ولا قوة إلا بالله).
يقول خالد: واللهُ -إن شاء الله- جاعل الدائرة عليهم، وقاتلهم كل مقتلة، فاقصدوا بنا قصدهم، فإني كاتب إلى يزيد وشرحبيل وعمرو أن يوافونا بما معهم من المسلمين هناك.
الجيوش الإسلامية تتحرك إلى أجنادين:
أرسل خالد الرسائل إليهم وبدأت الجيوش الإسلامية تتحرك، من كل المناطق، وتحرك الجيشان من دمشق إلى أجنادين، وحدث ما توقعه خالد عند خروجه من دمشق، إذ بمجرد توجهه بجيشه وجيش أبي عبيدة جنوبًا إلى أجنادين، خرج جيش دمشق خلفه، وبدأ يقاتل مؤخرته، ولكن خالد انطلق بجيشه بسرعة من دمشق إلى أجنادين، فحاصر جيش دمشق مؤخرة جيش أبي عبيدة، ولم يعلم بذلك خالد ، لسرعة سيره، فظل أبو عبيدة ومن معه صابرون على قتال حامية دمشق فترة من الزمن، حتى كادوا أن يُهزموا! فوصل الخبر إلى خالد بن الوليد، فعاد ينهب الأرض نهبًا، حتى وصل إلى جيش أبي عبيدة على أطراف دمشق، فَدَقَّ الرومَ بعضَهم على بعض (كما يقول الرواة)، وانتصر على حامية دمشق، وتتبعهم حتى أدخلهم مرة أخرى داخل أسوار دمشق، وعاد هو إلى مؤخرة الجيش مرة أخرى، ولكنهم لم يتتبعوه..
ثم انطلق إلى أجنادين بجيشه وجيش أبي عبيدة، ولم يعبر نهر الأردن خوفًا من اختراق الأرض التي سيكون على ميمنته فيها الجيوش الرومية، فالتف حول البحر الميت، حتى يصل إلى أجنادين.
وصلت الرسالة إلى شرحبيل في بصرى، وهو على بعد يوم واحد فقط من جيش وردان (نحو 45 كلم)، فلم يكن لديه وقت كافٍ للحرب، وكان خالد قد أمره ألا يقاتل جيش وردان، وخشي إن هو عاد إلى أجنادين أن يلحقه وردان بجيشه من الخلف! فأخذ جيشه واتجه شرقًا، لأنها منطقة أكثرها صحراء، والجيش الرومي لم يعتد على الصحراء، وبالفعل ما إن علم وردان باتجاه شرحبيل إلى الصحراء بجيشه، حتى خشي أن يتبعه وتوقف، ووصلته رسالة من هرقل للذهاب إلى جلق ليجتمع مع الجيش الرومي هناك، ويتجهوا جميعًا إلى أجنادين، وأنه هو الذي سيرأس جيوش الروم كلها هناك..
بذلك بلغت القوة الرومية في أجنادين نحو 100 ألف مقاتل أو يزيد، في حين بلغت الجيوش الإسلامية كلها 33 ألف مجاهد، وكان آخر الجيوش وصولاً إلى أجنادين جيش شرحبيل بعد أن خرج من الصحراء.
عسكر الجيش الإسلامي في أجنادين، وتجمع الجيش الرومي هناك، والتاريخ يذكر أن الروم لم يختاروا أجنادين للقتال، وإنما اختاروها للتجمع، فهي تقع في مفترق الطرق، فمنها طريق إلى بيت المقدس، وطريق واضح إلى دمشق، وطريق إلى البحر الأبيض المتوسط، وطريق إلى الرملة وطريق إلى غزة، مما يجعل تجمع الجيوش الرومية عندها ميسورًا، فهي مجرد مكان تجمع، لكن لا يوجد به أسوار عالية، أو حصون منيعة، فلم تكن مهيئة للحرب، وإنما للتجمع، ثم الانتقال إلى بيت المقدس أو الخليل، أو غيرها من المناطق المعدة للقتال، إلا أن جيش خالد بن الوليد بعيونه ومخابراته استطاع أن يفاجئهم في أجنادين، وكذلك بقية الجيوش الإسلامية، التي جاءت بسرعة مذهلة، إلى حيث أمرهم القائد الأعلى آنذاك.
أرسل جيش الروم أحد الجواسيس من العرب الموالين للروم إلى الجيش الإسلامي، اسمه ابن هزارز، وقد أسلم بعد ذلك، فدخل ولم يعرفه أحد، وقد وصاه تذارق أن يأتيه بخبر القوم، فمكث يومًا بليلة، ثم عاد إليهم فقال: "والله إني وجدتهم، رهبانًا بالليل، فرسانًا بالنهار، لو سرق ابن ملكهم قطعوا يده، ولو زنى رُجِم، لإقامة الحق فيهم".
فهذه الصفات التي في الجيش الإسلامي آنذاك، هي مفتاح النصر الذي جعلها تجرؤ على محاربة أعتى قوة في العالم قوة الروم، في أرضها، تلك الصفات: أنهم رهبان بالليل، يذكرون الله ليلاً، ويقفون بين يدي الله، يبكون، ويصلون، والناس نيام، وكأنهم انقطعوا لعبادة الله، سمْتهم ليس كسمت الناس العاديين، الذين يقضون أيامهم كما تكون، وإنما كالراهب الذي انقطع عن الحياة تمامًا، ومكث في محرابه، يتعبد الله، كان لهم دوي كدوي النحل، وهذه صفة لازمة لكل معسكرات الجهاد الإسلامي، في فارس والروم، وفي كل مكان، فإذا أتى النهار كانوا فرسانًا ذوي نشاط وهمة، وتدريبات على القتال كبيرة،ومهارة في الأداء، والأخذ بكل أسباب النصر، فهم متوكلون على الله بالعبادة، ويعدون العدة بالنهار، ثم إنهم يتسمون بالعدل المطلق، في البخاري من حديث عائشة: "إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِم الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِم الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ"، وهذا يجعلنا ننظر إلى حالنا، هل نحن رهبانٌ بالليل، فرسانٌ بالنهار؟ هل توجهنا لله عز وجل بخالص العبادة، وخالص الدعاء وخالص التوجه إلى الله سبحانه وتعالى في كل أحوالنا؟ وهل أعددنا العدة للكفار بكل ما استطعنا من قوة؟ وهل أبناء الشرفاء لدينا، وأبناء الرؤساء، ومن لهم السطوة لدينا يقام عليهم مثلما يقام على أبناء الأمة الإسلامية من غيرهم؟؟!
فقال القائد الرومي: لئن كنت صدقتني، فَلَبَطْن الأرض خيرٌ من لقاء هؤلاء على ظهرها، ولوددتُ أن حظِّي من الله أن يخلِّي بيني وبينهم، فلا ينصرني عليهم ولا ينصرهم عليَّ.
موقعة أجنادين:
في السبت 27 من جمُادى الأولى عام 13هـ، واجه فيها الروم بـ 100 ألف مقاتلٍ، جيش المسلمين البالغ 33 ألفًا، أي بنسبة 3:1 تقريبًا!! نظم خالد بن الوليد جيشه، فجعل على الميمنة معاذ بن جبل ، وعلى الميسرة سعيد بن عامر ، وقسم قلب الجيش نصفين، نصفًا للمشاة بقيادة أبي عبيدة ، وجعلهم في مؤخرة الوسط، ونصفًا للخيل في المقدمة بقيادة سعيد بن زيد ، ووقف خالد بنفسه في مقدمة الجيوش الإسلامية، حتى إن إشارة البدء للجيش الإسلامي، كانت قتال خالد بن الوليد نفسه، فلم يقاتلوا إلا عندما رأوه يحمل على القوم: (إذا حملتُ على القوم فاحملوا).
أما الجيش الرومي فقد كان قائده وردان في المؤخرة، وقد كان هذا ديدنهم في كل المعارك، مثلما فعل رستم في القادسية أيضًا، وهكذا يؤمِّنُ نفسه تمامًا.
كما استخدم خالد  سلاحًا معنويًّا لطيفًا في هذه المعركة، بأن جعل نساء المسلمين، في مؤخرة الجيش الإسلامي، (والجيش الإسلامي في تحركاته إلى الشام، وإلى العراق كانوا يذهبون مع أهاليهم، لأنهم يمكثون سنين وشهورًا طويلة، للجهاد فأصبحت حياتهم كلها الجهاد في سبيل الله، فانتقلوا بكل عائلاتهم)، فجعل خالد النساء والأبناء خلف الجيش، وأوصاهم أن يوصوا كل مجاهد بالقتال، ويحثوهم على القتال دون أولادهم ونسائهم، ويدعو لهم بالنصر والتمكين، وهو سلاح معنوي، أضاف به عاملاً جديدًا حفَّز المسلمين على الجهاد..
وكان خالد بن الوليد لا يهدأ في مكان حتى بدء المعركة، وكان كلما مر على قبيلة من القبائل، أو طائفة من الجيش أوصاهم بتقوى الله، وقال لهم: "قاتلوا في الله من كفر بالله، ولا تنكصوا على أعقابكم، ولا تهنوا من عدوكم، أقدموا كإقدام الأسد، وأنتم أحرار كرام، فقد أبيتم الدنيا، واستوجبتم على الله ثواب الآخرة، ولا يهولنكم كثرة أعدادهم، فإن الله منزلٌ عليهم رجسه، وعقابه (إذا حملت على القوم، فاحملوا)..
وهكذا كان القائد على ثقةٍ بنصر الله، وعلى يقين بأن الله لن يخذلهم، ما داموا قد استعدوا، وأخذوا بأسباب النصر، وخاصة أن حربهم ضد من كفر بالله، وصدوا عن انتشار دعوته إلى هذه البلاد؛ لذا فإن الله سينزل عليهم رجسه، وعقابه..
كان ذلك كله في صبيحة يوم السبت، وجاء وقت القتال عند صلاة الظهر، وكان خالد  يفضل أن يقاتل بعد صلاة الظهر، ونلاحظ اهتمامه  بالصلاة حتى في ميدان المعركة والسيوف على رقاب المسلمين، كما أن في ذلك أيضًا سيرًا على سُنة رسول الله ، فقد كان رسول الله  يجاهد في هذه الأوقات، من طلوع الشمس حتى قبيل الظهر، أو بعد صلاة الظهر، وكان يقول: "تهب نسائم النصر في هذه الأوقات"، كما روى الترمذي وأبو داود، فلم يبدأ خالد بالقتال، ولكن الجيش الرومي استغل الفرصة وبدأ هو بالهجوم، فهجمت ميمنة الجيش الرومي على ميسرة جيش المسلمين، على فرقة سعيد بن عامر ، فثبتت لها فرقة سعيد دفاعًا عن المسلمين فقط، ولكنها لم تهاجم؛ لأن خالدًا لم يعط الأمر ببدء القتال بعد!!.. وبعد ذلك تحركت ميسرة الجيش الرومي إلى ميمنة المسلمين فرقة معاذ بن جبل وثبت لها أيضًا، وظل الحال كذلك فترة من الزمان، حتى قال سعيد بن زيد  لخالد بن الوليد: يا خالد إن رماح الروم تنال منا!! فهم قد بلغ بهم الجهد من الدفاع، وفي الوقت ذاته لا يريدون أن يخالفوا أمره، ولكن خالد رد عليه: اصبر فإن في الصبر رجاء!
كان خالد بن الوليد  يرى أن الميسرة والميمنة لدى كلا الجيشين قد هاجمتا، فيكون من اليسير على قلب جيشه بقيادته أن يتقدم إلى قلب جيش الروم، مما يعجل وييسر من وصوله إلى قائد الروم (وهو يعلم أنه في مؤخرة جيشه)، ويعلم أنه إذا قتل قائدهم، فإن الجيش لن يصمد لحظة، وسيفكر في الهرب، وسيكون قد انتصر عليهم، بخلاف الجيش الإسلامي الذي يحمل عقيدة، ويقاتل من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا، ولأنه يحب الموت كما يحب هؤلاء الحياة (وقد رأينا مثالاً عمليًّا لذلك في موقعة مؤتة، حينما سقط القائد العام زيد بن حارثة، وتبعه جعفر بن أبي طالب، فسقط جعفر، فتبعه عبد الله بن رواحة، وسقط عبد الله بن رواحة، كل ذلك لم يفت من عضد الجيش الإسلامي، ولم يجعله يتوانى عن الجهاد، والاستمرار في المعركة، حتى اجتمع المسلمون وأمروا عليهم خالد بن الوليد ).
مقتل قائد الروم، وانتصار المسلمين:
أما خالد هنا فإنه يريد أن يضرب نقطة ضعفهم، بقتل قائدهم العام، وهذا ما حدث فعلاً، بعد أن تقدمت ميمنة جيش الروم وميسرته، غدا الطريق خاليًا للوسط أمام جيش المسلمين، فأشار خالد بالبدء بأن حمل عليهم بنفسه، وقال: "احملوا عباد الله على من كفر بالله"، فكان كمن أزاح صخرة أمام الطوفان، فاقتحم المسلمون جيش الروم كالسيل الهادر، وقاتلوهم قتالاً عنيفًا شديدًا، وقال معاذ بن جبل: "يا معشر المسلمين، اشروا أنفسكم اليوم لله، فإنكم إن هزمتموهم اليوم، كانت لكم هذه البلاد دار الإسلام أبدًا، مع رضوان الله، والثواب العظيم من الله"، فهو يحفزهم بأن في جهادهم ذلك، ليس فقط ثواب الله، إذا انتصروا أو استشهدوا، ولكن ستكون هذه البلاد أيضًا بلاد إسلامية، وقد كان -كما رأينا- هذا تقديرًا صائبًا من معاذ ، وليس مجرد نظرة تفاؤلية متعجلة في المعركة، فهذه القوى الرومية الموجودة في أرض فلسطين هي القوى الوحيدة للروم في هذه المنطقة، فإذا سقطت هذه المنطقة فإن نصف فلسطين سيكون في يد الجيش الإسلامي، وهذا ما كان فعلاً.
استمر القتال بين الفريقين وقتًا قليلاً كما ذكر الرواة (فما صبروا لهم فواقًا) أي مدة حلب الناقة، أو ما بين ضم اليد على ضرع الناقة لحلبها، وبسطها، أي هذه الفترة اليسيرة جدًّا، وانتصر الجيش الإسلامي انتصارًا عظيمًا، ووصل الجيش الإسلامي كما خطط خالد بن الوليد  إلى خيمة قائدهم العام، الذي قال: "والله ما رأيت يومًا في الدنيا أشدَّ عليَّ من هذا"، وكانت آخر كلماته، إذ اجتُثَّ رأسه بعد هذه الكلمة.
بلغ عدد القتلى من الروم في هذه المعركة نحو 3 آلاف قتيل، من 100 ألف، وبمجرد أن قُتِلَ قائده، لم يكن من بقية الجيش إلا أن فرُّوا عن طريق الطرق المتشعبة الكثيرة الموجودة حول أجنادين، ولكن الجيش الإسلامي لم يتركهم، بل أخذوا في تتبعهم في هذه الطرق، قتلاً وأسرًا.
كان الجيش الإسلامي 33 ألف، فكان على كل رجل أن يقتل ثلاثة من الروم (3/1)، فكانت هذه موقعة الفرد المسلم، وكان بين المسلمين من 14 إلى 24 شهيد فقط على اختلاف الروايات.
نماذج من شهداء المسلمين في هذه الموقعة:
- أبان بن سعيد بن العاص: كان قد تزوج مساء الخميس الذي سبق المعركة، تزوج في أجنادين!! وبعد أن مكث مع زوجته ليلتين، سارع إلى الجهاد في سبيل الله في اليوم الثالث، بعد أن تناديه الدنيا، يسارع إلى الآخرة! كيف رضت زوجته، وعائلة زوجته أن يزوجوه وهو مقدم على الحرب، بل إنه على أرض المعركة، ومع ذلك وافقوا على تزويجه!! ثم يدخل أرض المعركة، ويلقى الله شهيدًا في يوم السبت.
وهكذا نعلم أن المجتمع الإسلامي كله في هذه الفترة كان مجاهدًا، ونتعلم منه أن أمر الجهاد في سبيل الله اليوم ليس بالأمر الهين، لكي نقرره، بل إن أحدنا قد يكون منشغلاً بالدعوة إلى الله عز وجل في بلده، وليس في أرض الجهاد، ولكن المجتمع قد يرفض تزويجه، إذ إنه قد يتعرض لاعتقال أو غيره!!
- عمرو بن سعيد بن العاص (أخو أبان) فهذه عائلة فقدت اثنين من شبابها في يوم واحد.
- طُلَيْب بن عمير بن وهب: ابن عمة رسول الله  (أروى)، قتل بعد أن سقطت كفه حاملة سيفه..
- عبد الله بن الزبير بن عبد المطلب: ابن عم رسول الله  (وليس ابن الزبير بن العوام المعروف).
- عبد الله بن عمرو بن الطفيل الدوسي: ابن الصحابي الجليل، الذي استشهد في اليمامة ، وكان قد رأى رؤيا قبل أن يُستشهد، أنه وابنه يحاولان أن يدخلا في شيء ما، فنجح هو في دخوله،بينما فشل ابنه! وفسر ذلك بالدخول في قبره، وأنه سيستشهد في هذه الموقعة، وسيحاول ابنه أن ينال هذه الشهادة، ولكنه لن ينالها، فقال له أبوه: "ولكن ابق على العهد"، ويأتي اليوم الذي يموت فيه عبد الله على خطى والده شهيدًا في سبيل الله في هذه المعركة، بعد موقعة اليمامة بنحو عامين. وهكذا كانت رؤية الصحابة رضوان الله عليهم للاستشهاد في سبيل الله، أنه أمرٌ صعب، يحاولون الحصول عليه، فيخفقون مرة، وينجحون أخرى.
- يعقوب بن عمرو المشجعي. ليس مشهورًا في التاريخ، ولكنه عُرف لأنه قتل 7 من المشركين، ولم يكف عن القتال حتى سقطت يده.
- أما عكرمة بن أبي جهل، فقد كلل الله عز وجل له جهود أربع سنوات من الإسلام فقط، بأن استشهد أيضًا في هذه المعركة، على خلاف إن كان قد استشهد في هذه المعركة أم في اليرموك، ولكن لا خلاف أنه نال الشهادة في سبيل الله.
بعد انتصار المسلمين الساحق على الروم في موقعة أجنادين، أرسل خالد بن الوليد  خطابًا إلى خليفة رسول الله أبي بكر الصديق في المدينة، يبشره بالفتح فيقول له: "بسم الله الرحمن الرحيم، لعبد الله أبي بكر خليفة رسول الله ، من خالد بن الوليد سيف الله المسلول على المشركين، أما بعد، سلامٌ عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد فإني أخبرك أيها الصديق إنا التقينا نحن والمشركين، وقد جمعوا لنا جموعًا جمَّة كثيرة بأجنادين، وقد رفعوا صُلُبَهم، ونشروا كتبهم، وتقاسموا بالله لا يفرون حتى يفنوا أو يخرجونا من بلادهم، فخرجنا إليهم واثقين بالله متوكلين على الله، فطاعَنَّاهم بالرماح، ثم صرنا إلى السيوف، فقارعناهم في كل فجًّ، فأحمد الله على إعزاز دينه وإذلال عدوه وحسن الصنيع لأوليائه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته"..
فلما قرأ أبو بكر الرسالة فرح بها، وقال: "الحمد لله الذي نصر المسلمين، وأقرَّ عيني بذلك"، وكانت عينه  لا تنام، ليس لانتظار انتصار جيش المسلمين فحسب، ولكن لنقله خالد بن الوليد من العراق لنجدة المسلمين في الشام، على الرغم من معارضة عمر  لذلك، فكان يتمنى من الله عز وجل أن تُكلَّلَ هذه الجهود بالنجاح حتى لا يشعر بأنه أخطأ، أو يشعر بالذنب وتأنيب الضمير إن هُزِم المسلمون.

المشاركات الشائعة