نبذة عن حياته
هو هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس أبو الوليد القرشي الأموي الدمشقي أمير المؤمنين، وأمه أم هشام بنت هشام بن إسماعيل المخزومي.
وُلِدَ هشام بن عبد الملك -على القول الراجح- سنة 72هـ، وسمَّاه عبد الملك منصورًا لانتصاره على مصعب في تلك السنة.
قضى هشام الشطر الأخير من طفولته في منزل الخلافة الأموي بالشام في أواخر حكم أبيه وإخوته من الخلفاء وكان مغمورًا في البلاط الأموي زمن أخويه الوليد وسليمان، وقد بقي بعيدًا عن مسرح الأحداث نسبيًّا حتى توليه الخلافة سن 105هـ، وهو الرابع من ولد عبد الملك لصلبه الذين ولوا الخلافة.
وُصِفَ بالبخل وجمع المال، قال الجاحظ: كان هشام يقول: ضع الدرهم على الدرهم يكون مالاً. ويبدو أن السبب في هذا الوصف شدة مراقبته للمال العام، فقد كان شديد المحاسبة للمشرفين على الديوان، وحريصًا على مال المسلمين، ولذلك وصفه الشعراء والكُتَّاب بالبخل؛ لأن الشعراء اعتادوا الهبات الكبيرة من ملوك بني أمية.
تربيته لأولاده
كان لهشام عشرة من الأولاد الذكور وبعض البنات، ويختلف المؤرخون في عددهم؛ فيذكر ابن حزم أن عددهم كان ستة عشر ولدًا وبعض البنات، وقد حاول هشام أن يُحْسِن تربية أولاده فاختار لهم محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري المحدث لتأديبهم، واختار هشام لأولاده -أيضًا- من يعلمهم اللغة والشعر، وكان يحضر أحيانًا مجالس مؤدبيهم، وكان يعطي مؤدب ولده ألف درهم كل شهر، إلى جانب الكسوة والجوائز، وكان يوصي مؤدب ابنه أن يعلمه القرآن، ويروِّه الأشعار، وأيام الناس، ويأخذه بعلم الفرائض والسنن، وقيل: أوصاه أن يأخذ ولده بكتاب الله ويقريه في كل يوم عشر آيات ليحفظ القرآن، ويروه من الشعر أحسنه، ويتخلل به مغازي رسول الله ، وطرفًا من الحلال والحرام والخطب، ويصله بأهل الفقه والدين. وبالرغم من ذلك فقد أساء بعض أبنائه السيرة، ولم يشتهر أحد منهم بعد سقوطالدولة الأموية عدا حفيده عبد الرحمن بن معاوية بن هشام، مؤسس الدولة الأموية بالأندلس.
ويُذكَر أن هشامًا شتم ابنه محمدًا لقيام أحد عبيده بضرب طفل نصراني، كان قد اعتدى على أحد أولاد محمد، كما منع أحد أولاده من ركوب الدابة سنة، عقابًا له على عدم حضوره لصلاة الجمعة بحُجَّة موت دابته، وأنه ليس باستطاعته أن يحضر إلى المسجد ماشيًا، وقد كان هشام يهتم بتصرفات أولاده ويرغب لهم أن تكون سمعتهم جيدة بين الناس، وتصلح أحوالهم مع ربهم ودينهم، ويتضح ذلك من اختياره لمؤدبهم، وتوليتهم مواسم الحج، وإجبارهم على حضور الجمعة.
كما كان هشام يُشرِكُ أولاده بالحروب، ويقلدهم قيادة جيوش الغزو وقد اشتهر منهم معاوية بن هشام، قال عنه ابن حزم: قاد الصوائف عشر سنين، وقد شارك معاوية في قيادة الحملات الموجهة لغزو الروم زمن أبيه أكثر من عشر مرات، وقد شارك في قيادة حملات الغزو من أولاد هشام: سليمان، ومسلمة، وسعيد، ومحمد.
خلافته
تولى هشام بن عبد الملك الخلافة بعهد من أخيه يزيد سنة 105هـ، وكان هشام يُعَدُّ من ساسة بني أمية المشهورين، كان شديد المراقبة لعماله ودواوينه، وقد شهد له بجدارته أحد خصومه، فقال عبد الله بن علي بن العباس: جمعت دواوين بني مروان فلم أَرَ ديوانًا أصح ولا أصلح للعامة والسلطان من ديوان هشام.
علاقته بالرعية
كان هشام يضع الرقباء والعيون من خيار الناس على ولاته وعماله ليتأكد من سيرهم بالعدل، وقضائهم حوائج الخلق، ولا يكتفي بذلك بل يتعرض للناس بنفسه يسأل عن أحوالهم، ويحرضهم على المطالبة بحقوقهم، وكان له موضع بالرصافة تُضرَب له به السرادقات، فيكون فيه ستين ليلة بارزًا للناس، يرد فيها المظالم ويأخذ على يد الظالم، من جميع الناس وأطراف البلاد، ويصل إلى مخاطبته في ذلك الموضع راعي السوام والأمة السوداء، فمَنْ دونهما وقد وَكَّل رجالاً عقلاء بإدناء الضعفاء، والنساء واليتامى منه، ويستقبل وفود الأمصار فيلبي حاجاتهم، ويخرج مع مستشاريه يصنع لهم الطعام بنفسه فيأكل منه، ويأكل معه الناس، وإن نشبت بينه وبين أحد من أشراف رعيته خصومة لم يجد مفرًّا من إرضائه بكل سبيل، فقد شتم هشامٌ مرة رجلاً من الأشراف؛ فوبخه ذلك الرجل وقال: أما تستحي أن تشتمني وأنت خليفة الله في الأرض؟ فاسْتَحَى منه وقال: اقتصَّ مني. فقال: إذًا أنا سفيه مثلك. قال: فخُذْ عوضًا من المال. قال: ما كنت لأفعل. قال: فهبها لله. قال: هي لله، ثم لك. فنكس هشام رأسه واستحى، وقال: والله لا أعود إلى مثلها أبدًا.
وقد حدثت في خلافته أن قحطت البادية، فقدمت عليه وفود العرب، فهابوا أن يكلموه وكان فيهم درواس بن حبيب وهو ابن ست عشرة سنة، ثم قال هشام لحاجبه: من أراد أن يدخل عليَّ فليدخل فدخل حتى الصبيان، فوثب درواس حتى وقف بين يديه؛ فقال: يا أمير المؤمنين، إن للكلام طيًّا ونشرًا، وإنه لا يعرف ما في طيه إلا بنشره، فإن أَذِنَ لي أمير المؤمنين أن أنشره نشرته. فأعجبه كلامه، وقال: انشره لله دَرُّك. فقال: يا أمير المؤمنين، إنه أصابتنا سنون ثلاث: سنة أذابت الشحم، وسنة أكلت اللحم، وسنة دقت العظم، وفي أيديكم فضول مال، فإن كان لله ففرقوها على عباده، وإن كانت لهم فلا تحسبوها عنهم، وإن كانت لكم فتصدقوا بها عليهم، فإن الله يجزي المتصدقين، قال هشام: ما ترك لنا الغلام واحدة من الثلاث عذرًا، فأمر للبوادي بمائة ألف دينار، وله بمائة ألف درهم، ثم قال له: أما لك حاجة؟ قال: ما لي حاجة في نفسي دون عامة المسلمين.
كان هشام لا يُدخل بيت ماله مالاً حتى يشهد أربعون رجلاً أنه أُخِذَ من حقه، ولقد أعطى لكل ذي حق حقه، ويقال: إنه جمع من الأموال ما لم يجمعه خليفة قبله.
يوميات هشام ومجلسه
كان هشام إذا صلَّى الغداة كان أول من يدخل عليه حرسه، فيخبره بما حدث في الليل، ثم يدخل عليه موليان له مع كل واحد منهما مصحف فيقعد أحدهما عن يمينه، والآخر عن يساره حتى يقرأ عليهما جزأه، ويدخل الحاجب فيقول: فلان بالباب، وفلان، وفلان، فيقول: ائذن، فلا يزال الناس يدخلون عليه، فإذا انتصف النهار وُضِعَ طعامُه، ورُفِعَتِ الستورُ، ودخل الناس وأصحاب الحوائج وكاتبه جالس خلف ظهره، فيقول: أصحاب الحوائج، فيسألون حوائجهم، فيقول: لا، ونعم، والكاتب خلفه يوقع بما يقول: حتى إذا فرغ من طعامه وانصرف الناس صار إلى قائلته، فإذا صلى الظهر دعا بكُتَّابه فناظرهم فيما ورد من أمور الناس حتى يصلي العصر، فإذا صلَّى العشاء حضره سُمَّاره: الزهري وغيره.
وقد كان هشام في خلافته حازم الرأي جمَّاعًا للأموال، ذكيًا مدبرًا، له بُعدٌ للأمور جليلها وحقيرها، وكان فيه حلم وأناة، قال فيه الذهبي: كان عاقلاً حازمًا سائسًا فيه ظلم وعدل.
اهتمامه بحلبات السباق
كان هشام بن عبد الملك يستجيد الخيل، وأقام الحلبة فاجتمع له من خيله فيها وخيل غيره أربعة آلاف فرس، ولم يكن ذلك في جاهلية ولا إسلام لأحد من الناس، وكان هشام يقبل الهدايا من الخيل، ويقيم حلبات السباق لها، ويصلح الطرق ويوسعها لأجل ذلك، وكان يفرح كثيرًا إذا فازت خيله في السباق، ويطلب من الشعراء وصف الفرس أو الحصان الفائز.
تقبله للهدايا
كان هشام يتقبل الهدايا من الولاة وغيرهم، ولم يَرَ بذلك إضرارًا بمصلحة الدولة أو إجحافًا بحقوق الناس. ولا شك أن قبوله للهدايا من الولاة خاصة، وعدم إمعانه في التحري عن مصادر تلك الهدايا أمر غير مقبول من حاكم مثله، وهذا مخالف للنهج الذي سار الرسول والخلفاء الراشدون وعمر بن عبد العزيز عليه.
فعَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ: "اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ رَجُلاً عَلَى صَدَقَاتِ بَنِي سُلَيْمٍ يُدْعَى ابْنَ الْلَّتَبِيَّةِ، فَلَمَّا جَاءَ حَاسَبَهُ قَالَ: هَذَا مَالُكُمْ وَهَذَا هَدِيَّةٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : فَهَلاَّ جَلَسْتَ فِي بَيْتِ أَبِيكَ وَأُمِّكَ حَتَّى تَأْتِيَكَ هَدِيَّتُكَ، إِنْ كُنْتَ صَادِقًا. ثُمَّ خَطَبَنَا فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي أَسْتَعْمِلُ الرَّجُلَ مِنْكُمْ عَلَى الْعَمَلِ مِمَّا وَلاَّنِي اللَّهُ فَيَأْتِي فَيَقُولُ هَذَا مَالُكُمْ وَهَذَا هَدِيَّةٌ أُهْدِيَتْ لِي، أَفَلاَ جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ حَتَّى تَأْتِيَهُ هَدِيَّتُهُ، وَاللَّهِ لاَ يَأْخُذُ أَحَدٌ مِنْكُمْ شَيْئًا بِغَيْرِ حَقِّهِ إِلاَّ لَقِيَ اللَّهَ يَحْمِلُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَلَأَعْرِفَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ لَقِيَ اللَّهَ يَحْمِلُ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ أَوْ شَاةً تَيْعَرُ. ثُمَّ رَفَعَ يَدَهُ حَتَّى رُئِيَ بَيَاضُ إِبْطِهِ يَقُولُ: اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟ بَصْرَ عَيْنِي وَسَمْعَ أُذُنِي". صحيح البخاري.
اهتمامه بالآثار الأدبية الخاصة بالأمم الأخرى
كان الخليفة هشام بن عبد الملك شغوفًا بالاطلاع على الآثار الأدبية الخاصة بالأمم الأخرى، فقد أمر بترجمة كتاب عن تاريخ فارس، وتسرب هذا الشغف إلى المحيطين به، فترجم مولاه سالم بعض كتب أرسطو إلى العربية، كما ورث ابنه جبلة بن سالم عن أبيه كثيرًا من معارفه وعلومه؛ فترجم بعض الآثار التاريخية إلى العربية.
اتهامه بشرب الخمر
جاءت روايات لا يصح إسنادها تشير إلى أن هشام بن عبد الملك كان يشرب الخمر كل يوم جمعة بعد الصلاة، وكانت له مجالس يدار فيها الخمر، فإن تلك الروايات لا تصح من حيث السند، كما أن سيرة هشام منافية لهذا الاتهام الباطل، فقد زجر ولي عهده لمعاقرته وإدمانه الخمر، كما زجر ابنه مسلمة المكَنى أبا شاكر، وألزمه الأدب وحضور الجماعة.
العلماء في عهد هشام بن عبد الملك
عندما تولى هشام بن عبد الملك حاول تقريب بعض العلماء -بعض الشيء- والاستفادة منهم، ومن أشهر هؤلاء العلماء العالم الجليل محمد بن شهاب الزهري، والإمام الأوزاعي، وأبو الزناد وغيرهم، وكان تأثير هؤلاء العلماء في اتخاذ القرار في بعض الجوانب، وبطريق غير مباشر من خلال تأثير قربهم من الخليفة وأسرته -لا سيما الزهري- على سلوك هشام وسيرته، ولعل الذي حَدَّ من تأثير العلماء في توجيه القرار في عهد هشام -مقارنة بتأثيرهم في عهد عمر بن عبد العزيز- هو محاولة هشام أن يمسك العصا من الوسط، فحاول أن يسير وَسَطًا بين سياسة عمر بن عبد العزيز الإسلامية الخالصة وسياسة المُلك، ووسطًا بين عصبية القبائل القيسية واليمنية، وهذا ما دعا الذهبي حين وصف سياسته أن يقول فيه: "...فيه ظلم مع عدل".
سياسة هشام بن عبد الملك الخارجية
لم يكن هشام بن عبد الملك رجل دولة من طراز رفيع في إدارة شئون الدولة الداخلية فحسب، بل أعطى عناية كبيرة للسياسة الخارجية، ولصيانة حدود الدولة وتأديب أعدائها، يقول فلهاوزن: "ولا شك أن المؤرخ يخطئ في تصور هشام، إذا ظن أنه كان خليفة لا هَمَّ له إلا أمور الإدارة والشئون الداخلية، على أن هشامًا لم يكن جنديًّا ولكنه لم يكن يرهب الحروب، بل هو وجهها بهمة وبكل الوسائل، وجهَّز جيوشًا كبيرة، ولم يدخر في ذلك الأموال ولا حياة الرجال وكانت يداه -دائمًا- مشغولتين بالمشروعات الحربية في أكثر المواضع تباعدًا؛ فقد كانت جيوشه تقف بالمرصاد للروم، واستمر في إقامة الحصون على الحدود، وكان قواده لا يكفون عن الغزو والجهاد، وكان هشام يسند قيادة الجيوش في معظم الأحيان إلى رجال من أسرته، مثل: أخيه مسلمة بن عبد الملك، وأبنائه معاوية وسليمان، وأبناء عمه مثل: مروان بن محمد بن مروان، وأبناء إخوته مثل: العباس بن الوليد بن عبد الملك".
وإذا كان هناك من مأخذ على هشام بن عبد الملك فهو تغافله عن دعاة بني العباس الذين نشطوا في عهده في الدعوة لآل البيت، وانبثوا في خراسان، وجَدُّوا في تشويه سمعة الدولة الأموية، وفي الاستعداد لتقويضه. ولعل كراهية هشام للعنف وسفك الدماء كانت سببًا في تغاضيه عنهم حتى استفحل أمرهم، وقد ظهرت آثار ذلك قبيل وفاته واستفحلت بعده، بحيث لم يستطع خلفاؤه وقف مَدِّ الدعوة العباسية التي نجحت في نهاية الأمر في القضاء التام على أسرته؛ ولذلك يقول ابن كثير: "لما مات هشام بن عبد الملك مات مُلْكُ بني أمية وتولى، وأدبر أمر الجهاد في سبيل الله، واضطرب أمرهم جدًّا، وإن كانت تأخرت أيامهم بعهده، نحوًا من سبع سنين، ولكن في اختلاف وهيج، وما زالوا كذلك حتى خرجت عليهم بنو العباس فاستلبوهم نعمتهم وملكهم، وقتلوا منهم خلقًا وسلبوهم الخلافة".
وفاة هشام بن عبد الملك
تُوُفِّي هشام بن عبد الملك يوم الأربعاء من شهر ربيع الآخر سنة 125هـ.