وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين

     .. سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر". **** وعن أبي هريرة و أبي سعيد رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «إن الله اصطفى من الكلام أربعا: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر *** قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بخ بخ لخمس ما أثقلَهن في الميزان: لا إله إلا الله، وسبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، والولد الصالح يُتوفَّى للمرء المسلم فيحتسبه ***

ad

الأحد

عمرة القضاء

سبب عمرة القضاء
أعطى الله  للمسلمين في نهاية العام السابع من الهجرة شيئًا ذاب المسلمون شوقًا إليه، وهو دخول مكة المكرمة لأداء عمرة القضاء، فقد كان من بنود صلح الحديبية أن يأتي المسلمون بعد عام من صلح الحديبية، أي في نهاية العام السابع من الهجرة؛ ليدخلوا مكة معتمرين ليس معهم إلا سلاح المسافر، ويخرج أهل مكة منها، ويتركون البلد الحرام للمسلمين مدةَ ثلاثة أيام متواصلة، وأعلن الرسول  في شهر ذي القعدة من العام السابع للهجرة في المدينة المنورة عن العمرة العظيمة، وأمر رسول الله  ألاّ يتخلف عنها أحدٌ شهد الحديبية.
وسوف تبدأ تفصيلات هذه العمرة المباركة عمرة القضاء، وهي في الحقيقة تحتاج منا إلى وقفة مهمة، فقد خرج ألفان من الصحابة ، هذا غير النساء والصبيان، وخرجوا بالسلاح الكامل في موكب مهيب، مع أن الرسول  كان متفقًا مع قريش على أنه لا يدخل مكة إلا بسلاح المسافر فقط، إلا أنه  لا يأمن من غدر قريش؛ فخرج المسلمون بالسلاح الكامل وبالعُدَّة الكاملة من الرماح والسهام والدروع، وكأنه خارج للحرب، ولكنه  سوف يترك كل هذه الأشياء خارج مكة؛ ليدخل مكة بسلاح المسافر وفاءً بعهده ، وأحرم  من ذي الحُلَيفة، وهي آبار عليّ، وظل طول الطريق من ذي الحليفة إلى مكة المكرمة يلبي هو وأصحابه ، وكان الطريق طويلاً عشرة أيام تقريبًا من التلبية المتواصلة، حتى وصلوا إلى مكة، وهذه لحظة مهيبة من أعظم لحظات السيرة النبوية؛ فبعد سبع سنوات كاملة من الهجرة، وترك أحب البلاد إلى قلب الرسول ، يعود الحبيب  إلى بلده الحبيب مكة، فها هي الأيام تمر بسعادتها وأحزانها، ولكن العاقبة للمتقين، وشتَّان بين حال المسلمين منذ سبع سنوات وحالهم الآن.
فقد خرج رسول الله  من مكة منذ سبع سنوات مهاجرًا، ومترقبًا ومستخفيًا بنفسه، يختبئ هنا تارة وهنا تارة، ويُخفِي آثاره قدر المستطاع، واليوم يدخل رسول الله  مكة مُعلِنًا ذلك للجميع، وهذا الإعلان ليس لأهل مكة فقط، بل لأهل الجزيرة جميعًا، بل للعالم أجمع.
الرسول وصحابته يدخلون البيت الحرام
ومرت السنوات السبع، والرسول  وصحابته الكرام في غيبة عن مكة المكرمة، وها هو الرسول  يعود في ألفين من الرجال، غير النساء والصبيان في مظاهرة إيمانية عظيمة، وتلبية تقطع صمت الصحراء، ويعلن لكل الخلق أن: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لاَ شَرِيكَ لَكَ.
حقًّا لا شريك لك، وحقًّا الحمد كله لله، وحقًّا الملك كله لله، والدليل هذه العمرة التي نتكلم عليها؛ فمنذ سبع سنوات خرج أهل مكة جميعًا يبحثون عن رسول الله  في كل بقعة ليقتلوه، والآن خرج أهل مكة جميعًا، ولكن خرجوا إلى جبال مكة وأوديتها؛ ليفسحوا الطريق لرسول الله ، ليدخل مكة معتمرًا وملبيًا ورافعًا رأسه ومحاطًا بكوكبة من المسلمين المسلحين بالسيوف في أعظم تشريفة رأتها مكة في كل تاريخها، اكتفى أهل مكة -سبحان الله- بالمراقبة له ولأصحابه ، وهم يؤدون شعائر العمرة على طريقة المسلمين.
وهذا حدث من أعظم أحداث السيرة النبوية، وهذه العمرة تمهيدًا نفسيًّا رائعًا لما سيحدث بعد ذلك بعام عندما يدخل الرسول مكة فاتحًا، ولعل قضية فتح مكة تكون صعبة جدًّا على التخيل عند كثير من الصحابة؛ لأن مكة من أعظم مدن الجزيرة، بل أعظم مدن العالم، وقريش هي أعز قبيلة في العرب، ومن الصعب على أحدٍ التخيل أن المسلمين يأخذون جيشًا ويقتحمون مكة، ويغزون قريشًا في عقر دارهم، فهذا أمر بعيد! ولكن بعد هذه العمرة أصبح الوضع مختلفًا، فقد رأى المسلمون أهل مكة يفسحون لهم الطريق دون مقاومة، ويتركون ديارهم ثلاثة أيام متواصلة، ويكتفون بالمراقبة والحسرة، وهم لا يستطيعون فعل أي شيء.
ولا شك أن المسلمين قد لاحظوا الانبهار الذي كان عند القرشيين من رؤية قوة المسلمين، وكان الرسول  يعرف أن هناك أنواعًا كثيرة من الناس لا تنبهر إلا بالقوة، ولا يحترمون غيرهم إلا إذا وجدوه صُلبًا شديدًا عزيزًا، وصدق عثمان بن عفان  إذ يقول: "إن الله ليزعَ بالسلطان ما لا يزعُ بالقرآن"
لم يرتدع أهل مكة عند سماع الآيات القرآنية الكريمة الباهرة، مع تمام علمهم أن القرآن معجزة، وأنه فوق طاقات البشر، وأنهم لا يستطيعون الإتيان بسورة من مثله، ولو اجتمعوا لذلك، ولم يرتدعوا بهذا القرآن العظيم؛ ولكن على الناحية الأخرى وقفوا في ذهول أمام قوة المسلمين وعظمتهم.
الرسول وإظهار قوة المسلمين
كان الرسول  حريصًا تمام الحرص على إظهار قوة المسلمين أمام أهل مكة قدر المستطاع، وتعددت مظاهر هذه القوة في عدة مظاهر:
1- جاء الرسول  بقوة السلاح الكامل من المدينة المنورة، ولكنه كان وفيًّا بالعهد، فقد أبقى السلاح خارج مكة مع سرية من الصحابة، كان فيها مائتان من الصحابة ، وعليهم محمد بن مسلمة ، وبعد أن انتُهي من العمرة تبادل هؤلاء الحرَّاس مع مجموعة من المسلمين الذين أدوا العمرة، وجاءوا لأداء العمرة كغيرهم من الصحابة . وكان المسلمون قد جاءوا من المدينة إلى مكة وهم يسيرون بالسلاح، وهم يعلمون أن عيونًا لقريش ترقب الموقف. وبالفعل رأت عيون قريش الرسول  وهو يمشي بالسلاح، ومعه قوة كبيرة من الصحابة ، وأرسلت قريش إلى الرسول بذلك الأمر، وقالوا له: إنه قد وعدهم أن يدخل مكة بسلاح المسافر فقط. فقال لهم : إنه سيترك السلاح خارج مكة، ولكنه لا يأمن على نفسه من غدر قريش. فالرسول  يأخذ بالأسباب، فذهب في عُدَّةٍ كاملة ليلقي الرهبة في قلوب قريش.
2- دخل الرسول  مكة راكبًا ناقته القصواء، والمسلمون حوله يُشهِرون سيوفهم لحمايته، والرسول  يمشي وحوله المسلمون من كل مكان يحيطون به ، كما يحيط السِّوار بالمِعْصَم حماية له من المشركين، أو من غدر قريش، فكان ذلك منظرًا مهيبًا جدًّا.
3- دخل المسلمون مكة وهم يلبون جميعًا في صوت واحد: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ. وكانت أصوات الصحابة وهم يلبون تهز أعماق قريش، وكان هناك ألفان من الرجال الأشداء يلبون ويرفعون أصواتهم بالتلبية وهم يدخلون مكة المكرمة.
4- تقدم صفوف المسلمين عبد الله بن رواحة وهو ينشد الشعر، ولا نستغرب أن يقول الشعر في مثل هذا الموقف؛ لأن الشعر عند العرب هو وسيلة الإعلام الأولى، فإذا قيل الشعر وقف الجميع ليستمع، وعبد الله بن رواحة كان يعرف هذا الموقف، واختار من الشعر ما يناسب إظهار القوة، ومما قاله في شعره، كما في الترمذي والنسائي عن أنس  -والحديث حسن صحيح- قال:
خَلُّوا بَنِي الْكُفَّارِ عَنْ سَبِيلِـهِ *** الْيَوْمَ نَضْرِبُكُمْ عَلَى تَنْزِيلِهِ
ضَرْبًا يُزِيلُ الْهَامَ عَـنْ مَقِيلِهِ *** وَيُذْهِلُ الْخَلَيِلَ عَنْ خَلِيلِهِ
والمضمون لهذا الشعر أن عبد الله بن رواحة  يفسح الطريق لرسول الله ، ويعلنها واضحة صريحة أنه سيضرب كل من سولت له نفسه الغدر به ، ولكن عمر بن الخطاب لم يستوعب ما فعله عبد الله بن رواحة ، فقال له: يابن رواحة، بين يدي رسول الله  وفي حرم الله تقول الشعر؟! لكن الرسول  كان يرى ما يفعله عبد الله بن رواحة، ومدرك لعقلية العرب عامَّة وعقلية قريش خاصة، قال له : "خَلِّ عَنْهُ، فَلَهُوَ أَسْرَعُ فِيهِمْ مِنْ نَضْحِ النَّبْلِ". أي من رمي النبل والسهام، فكانت هذه الأبيات من أقوى الأسلحة التي وجِّهت لقريش.
5- أمر رسول الله  الصحابة رضوان الله عليهم أن يَرْمُلُوا في الأشواط الثلاثة الأولى؛ أي يُسرِعوا في الجري في أول ثلاثة أشواط من العمرة، وقد أصبح هذا الأمر سُنَّة دائمة، وكان ذلك لإظهار قوة المسلمين.
6- أمر الرسول  الصحابة أن يظهروا أكتافهم اليمنى من خلال ملابس الإحرام، فيكشفوا عن سواعدهم الشديدة؛ حتى ترى قريشٌ قوتهم العضلية، إذْ قال  في رواية: "رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً أَرَاهُمُ الْيَوْمَ مِنْ نَفْسِهِ قُوَّةً"
والذي حمل الرسول  على إظهار الصحابة لقوتهم أثناء أداء العمرة، أنه سرت في مكة إشاعة أن المسلمين قد وهنتهم حُمَّى المدينة المنورة، فلما رأى المشركون قوة المسلمين وعضلات المسلمين وسرعتهم، قالوا: "هؤلاء الذين زعمتم أن الحُمَّى قد وهنتهم، هؤلاء أجلد من كذا وكذا". وترك ذلك أثرًا كبيرًا في المشركين.
7- صلى الرسول  بالمسلمين الصلوات الخمس في الأيام الثلاثة بصورة جماعية في الحرم. وتخيلْ صلاة ألفين من الرجال غير النساء والصبيان، بطريقة واحدة، وبتكبير وتحميد، وبقيادة منظمة لرسول الله ، إنها صورة باهرة لكل الناس.
8- أمر الرسول  بلال بن رباح أن يؤذن من فوق الكعبة، وكانت هزة نفسية عميقة للمشركين، وهم يرون بلالاً الحبشي الذي كان يباع ويشترى، بل يعذب في شوارع وصحراء مكة، وكانوا يربطون الحبل به، ويسيرون به في شوارع مكة يسخرون منه، ويعذب بالصخرة العظيمة على ظهره، هذا الرجل الذي لاقى الأمَرَّينِ من أهل مكة وزعماء مكة، هو الآن يصعد فوق الكعبة، فوق أعظم مكان في الأرض، بعد أن أعزَّه الله  بالإسلام، يرفع أذان المسلمين، فهذا الأمر قد هزَّ قريشًا تمامًا من الأعماق، ويردد بلال كلمات الأذان بما فيها من مواطن عزة كثيرة من تكبير لله ، وشهادة بوحدانية الله ، وشهادة بنبوة الرسول  إلى آخر كلمات الأذان، فهي كلمات تُلقِي الرهبة والجلال في قلوب كل من يشاهد ذلك من غير المسلمين.
9- كانت تعاملات الرسول  مع المؤمنين جميعها أمام المشركين، ورأوا بأعينهم خضوع الصحابة لرسول الله ، ورأوا مدى التوقير والإجلال له، وتذكروا ما قاله لهم عروة بن مسعود الثقفي يوم صلح الحديبية، وعلمت قريش أن الصف الإسلامي صف موحَّد، وقويّ وطائع بكامله لزعيم واحد هو الرسول .
10- ختم الرسول  هذه الصورة البهيَّة القوية بزواجه من السيدة ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها، وفي هذا الزواج دليلٌ على أنه يعيش حياة طبيعية في مكة؛ فالرسول ليس خائفًا ولا مترقبًا، بل يتزوج ويحتفل ويقيم العرس، بل إنه في بساطة شديدة لا تخلو من حكمة سياسية رائعة دعا المشركين لحضور الحفل وللأكل من الوليمة، ولكن المشركين رفضوا ولم يقبلوا ذلك، وفهموا رسالة الرسول ، وأنه يتصرف في مكة وكأنها بلده، وليست بلدهم.
إضافةً إلى أن السيدة ميمونة بنت الحارث من قبيلة بني عامر العزيزة، وقبيلة بني عامر كانت تفتخر على العرب أنها من القبائل القليلة التي لم يُسْبَ منها امرأة واحدة، ولم يؤخذ منها أسير، وكان هذا إعلان ارتباط بين الرسول  وبين قبيلة قوية عن طريق النسب، وبهذا تتناقص الأرض من حول المشركين. فإذا أضفت إلى ذلك أن السيدة ميمونة بنت الحارث هي خالة خالد بن الوليد ، وكان خالد بن الوليد ساعتها لا يزال مشركًا، وهي أخت أم الفضل زوجة العباس بن عبد المطلب، وكانت من أعظم العرب نسبًا، وكانوا يقولون: إنها من أعظم الناس أصهارًا، وعَلاقاتها الإنسانية في مكة كبيرة ومتشابكة. فهذا زواج سياسي اجتماعي دعويّ حكيم من رسول الله ، وفي توقيت في قمة الحكمة، وكان هذا الزواج له أبلغ الأثر في مشركي مكة.
وبذلك نرى حرص الرسول  على أن يُظهِر قوة المسلمين، وبأس المسلمين أمام مشركي قريش.
فتلك عشرة كاملة، وبهذه الأمور ارتفعت أسهم المسلمين إلى السماء، وظهرت عزة المسلمين، فكانت هذه العمرة من أَجَلِّ وأعظم الأعمال في هذه السنوات السبع الأخيرة، وعُرِفت هذه العمرة بأسماء كثيرة منها عمرة القضاء، وعمرة القضية، وعمرة القصاص، وعمرة الصلح، وهذه كلها أسماء لنفس العمرة في العام السابع من الهجرة.
الرسول يواصل سياسة الضغط على غطفان
وبعد هذه العمرة المباركة تابع الرسول  سراياه في مناطق غطفان من جديد، وأرسل إليهم سريتين: واحدة في ذي الحجة 7هـ، وواحدة في صفر 8هـ، وواصل سياسة الضغط على غطفان حتى تلين قناتهم، وحتى يعرفوا جدية المسلمين وبأسهم.

المشاركات الشائعة