وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين

     .. سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر". **** وعن أبي هريرة و أبي سعيد رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «إن الله اصطفى من الكلام أربعا: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر *** قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بخ بخ لخمس ما أثقلَهن في الميزان: لا إله إلا الله، وسبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، والولد الصالح يُتوفَّى للمرء المسلم فيحتسبه ***

ad

الأحد

معركة اليرموك


الاستعداد لمعركة اليرموك

من الذي حمل الرسالة؟ إنه سيدنا عبد الله بن عمرو بن العاص، كان قائدًا من قُوَّاد المسلمين في الأردن، وهو من كان يخلف سيدنا عمرو بن العاص مباشرة في إمارة الأردن، وذلك بتولية من سيدنا أبي عبيدة بن الجراح. ومن يطالع سيرة سيدنا عبد الله بن عمرو بن العاص يتعجب من كونه من قواد المسلمين في هذا الجهاد مع سيرته هذه، فما وجه العجب في ذلك؟!!

الأمر أن سيدنا عبد الله بن عمرو بن العاص كان مشهورًا بين الصحابة بالعبادة والزهد والركون إلى المسجد وكان لا يأكل إلا ما يكفيه فقط للعيش، ثم يذهب ويعبد الله I ويصلِّي ويتنسَّك ويذكر الله I كثيرًا حتى شقَّ على نفسه لدرجة أنه بلغ رسول الله  هذا الأمر عنه؛ فاستدعاه وقال له: "ألم أُخْبرَ أنك تصوم النهار لا تفطر، وتصلى الليل لا تنام؟!! فحسبك أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام"؛ فقال عبد الله: والله يا رسول الله إني أطيق أكثر من ذلك؛ فقال: "فحسبك أن تصوم من كل جمعة يومين", وفي رواية: "فحسبك أن تصوم الاثنين والخميس"؛ فقال عبد الله: إني أطيق أكثر من ذلك؛ فقال رسول الله : "فهل لك في خير الصيام؟! صيام داود: كان يصوم يومًا ويفطر يومًا"؛ فلبث عليه عبد الله بن عمرو بن العاص (أصبح يصوم يومًا، ويفطر يومًا طوال حياته), ثم عاد رسول الله  يسأله: "علمت أنك تجمع القرآن في ليلة (يقرأ القرآن كله كل ليلة) وإني أخشى أن يطول بك العمر وأن تمَلَّ قراءته؛ اقرأه في كل شهر مرة", فقال: إني أطيق أكثر من ذلك؛ فقال: "اقرأه في كل عشرة أيام مرة"؛ فقال: إني أطيق أكثر من ذلك؛ فقال: "اقرأه في كل ثلاث مرة" (وهذا أقلُّ وقت للقراءة)؛ فلبث على ذلك؛ فقال رسول الله : "إني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتى فليس مني", ولقد عُمِّرَ عبدُ الله بن عمرو بن العاص طويلاً فكان من معمري الصحابة، حتى أصبح شيخًا كبيرًا وساعتها كان يشُقُّ عليه الصيام (كان يصوم يومًا ويفطر يومًا)، وقراءة القرآن كل ثلاثة أيام؛ فقال: ليتنى قبلت رخصة رسول الله  (لا يريد أن يتنازل عما أخبر الرسول به). وهذا يؤكد أن أحب الأعمال إلى الله تعالى أدومها وإن قلَّ، لكن ليس معنى ذلك أن تقلِّل من قراءة القرآن فتقرأ سورة كل شهر أو شهرين مثلاً؛ لتضمن الاستمرار في الكِبر؛ فالله تعالى يقول: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا[العنكبوت: 69].

هذا الناسك العابد كان أبوه سيدنا عمرو بن العاص يذهب ويشتكيه لرسول الله  من كثرة عبادته لله I، يراه يصلي كثيرًا، ويصوم كثيرًا، فكان قلب عمرو بن العاص يشفق على ابنه من كثرة العبادة؛ فذهب إلى رسول الله  يشكو إليه ابنه؛ فقال رسول الله  لسيدنا عبد الله: "افعل ما أمَرتُك, (أي صيام داود، وقراءة القرآن كل ثلاثة أيام)، وأطَعْ أباك". (أي في هذا الأمر). وقد انبنى على هذه الكلمة (أطع أباك) من رسول الله  لعبد الله بن عمرو بن العاص أشياء كثيرة أخرى في التاريخ الإسلامي سنأتي لها -إن شاء الله- في حينها.

هذا الناسك العابد عندما جاء الجهاد كان في طليعة المجاهدين، وكان قائدًا من قواد المسلمين في الأردن، وكان أشد المحمسين للناس على القتال وترك المسجد وترك أجر ألف صلاة للصلاة الواحدة في المسجد النبوي كما تحدثنا من قبل عن أبي الدرداء، وكما تحدثنا من قبل عن كثير من الصحابة اشتُهِروا بالعبادة، واشتهروا بالذكر، واشتهروا بالصيام والصلاة والصدقة ومع ذلك عندما يأتي وقت الجهاد كانوا يتركون كل هذا ويذهبون إلى الجهاد، ويذكرون الله I في أرض المعركة في أشرف الأماكن، وهذا يوضح لنا مفهوم الإسلام الشامل، وأن الإسلام ليس مجرد عبادات أو طقوس تُنفَّذ، ولكنه يحتوي أشياء كثيرة: منها العبادة ومنها العقيدة ومنها المعاملات ومنها الجهاد في سبيل الله.

أبو سفيان والمشورة النافعة :

وأثناء هذا الحوار وهم جالسون في خيمة يزيد بن أبي سفيان، كان أبو سفيان بن حرب مارًّا أمام الخيمة, وهو طبعًا مشهور في الجاهلية، إذ كان من قادة قريش في الحروب، وهو الذي قاد الجيش المشرك في أُحُد والأحزاب، وكان من القادة المفكرين، وقد أسلم بعد عام الفتح وحَسُنَ إسلامه، وخرج للجهاد في أرض الشام في هذه المعركة، وكان من الذين يحمسون المسلمين للقتال، وكما سنرى بعد ذلك في موقعة اليرموك هو الذي كان معينًا لحثِّ المسلمين على القتال؛ فيدور على القبائل ويحمسها..

فعرف أن داخل الخيمة قادة المسلمين يتفاهمون في الأمر، فمن قادة المسلمين؟ إنهم (خالد بن الوليد ويزيد بن أبى سفيان, كلهم في سن أبنائه، بل فيهم ابنه بالفعل) فيقول: ما كنت أظن أني أبقى حتى أرى غِلْمَةً من قريش يذكرون أمر حربهم، ويكيدون عدوهم في حضرتي ولا يُحْضِرونني!! فسمعه سيدنا أبو عبيدة وهو داخل الخيمة؛ فقال: ما رأيكم؟ فقالوا: فلْيدخلْ؛ فقال: دعه؛ فدخل عليهم أبو سفيان ؛ فقال: ما الخبر؟ فأخبروه بأمر الجيش الرومي وأنه على بُعد نصف ليلة، فكان أول ما نظر سيدنا أبو سفيان للأمر أن قال: إن معسكركم هذا ليس بمعسكر -أي أنكم إذا بقيتم في مكانكم؛ فسيكتسحكم الرومان- إني أخاف أن يأتيكم أهل فلسطين والأردن؛ فيَحُولُوا بينكم وبين مددكم من المدينة؛ فتكونوا بين عسكرهم (لأن الجيش الإسلامي موجود في الجابية وفيها بعض الرومان، والجيش الرومي قادم من الغرب إلى الشرق في اتجاه الجابية، وهو خائف من أن يلتف الجيش الرومي حولهم من جنوب الجابية؛ فيُحْصَرَ المسلمون في شمال الشام، ويمنع عنهم المدد) فيقول لهم: فارتحلوا حتى تجعلوا (أذرعات) خلف جيشكم، و(أذرعات) هذه مدينة في جنوب الجابية اسمها الآن (دِرْعة) في الأردن.

فاستحسن المسلمون هذا الرأي؛ وقالوا: نِعْمَ الرأيُ أبا سفيان، وعلى الفور بدأوا يجهزون أنفسهم كي يأمروا الجيوش بالتحرك إلى (أذرعات)، وهذا ليس انسحابًا كما كان الكلام في المشاورة، بل هو اختيار لأرض المعركة كما كان يفعل المسلمون دائمًا في كل المعارك السابقة، حتى يرغموا عدوهم على القتال بها؛ فتكون لهم الغلبة.

عندما وافق القادة على ذلك الرأي تحمس وتشجع، وقال لهم: إذا قبلتم هذا الرأي مني؛ فخذوا رأيًا آخر: فأمِّرُوا خالد بن الوليد على الخيول (وكان يعرف أن خالد بن الوليد أُمِّر على الجيوش كلها، لكن قال: أمِّروه على الخيول), ومُروه بالوقوف مما يلى نهر الرِّقاد -يعنى: اجعلوا خالد بن الوليد يقف بالخيول بينكم وبين الجيش الرومي- وأَمِّرُوا رجلاً على الرماة، (أيَّ رجلٍ آخر تختارونه، المهم أن يكون خالد على الخيل)؛ وأخرجوا إليه كل نابض بوتر –يعني كل من يجيد الرمي، ومروه بالوقوف بين العسكرين؛ ليحمي خالدًا, لماذا هذه الوقفة؟ فإنه سيكون لرحيل العسكر (المتحرك من الجابية إلى أذرعات) صوت عالٍ في السَّحَر (يريدهم أن يتحركوا وقت السحر قُبيل الفجر بقليل؛ حتى لا ينتبه الجيش الرومي لتحركاتهم)؛ فقال: "فإن أقبلوا يريدون ذلك طمعًا فيكم لقيتهم الخيول بخالد وكفَّتْ عنهم الرماة", فاستحسنوا هذا الرأي أيضًا، وجعلوا خالد بن الوليد يقف بالخيول، ومعه مجموعة من الرماة وقفوا بينه وبين الجيش، وبدأ الجيش الإسلامى يتحرك في السَّحَرِ بالفعل من الجابية إلى أذرعات، وعندما علم الرومان بهذا الأمر، وسمعوا ضجة تحرك الجيش الإسلامي خرجت الخيول الرومية مباشرةً؛ لتقطع الطريق على الجيش الإسلامي؛ فلقيها خالد والرماة وكفُّّوهم، تمامًا كما توقع أبو سفيان بن حرب ، فخشي الرومان الدخول في معركة أثناء الليل، وانسحبت جيوشهم دون حدوث أي اشتباك بين الطرفين، وبالفعل انتقل المسلمون من الجابية إلى منطقة أذرعات وعسكروا بها.

على ضفتي اليرموك :

عندما وجد الجيش الرومي الجيش الإسلامي ينتقل إلى أذرعات، انتقل هو أيضًا إلى الجنوب، وعسكر في مكان يسمى (دير أيوب)، ويفصل بين دير أيوب (الذي يعسكر به الجيش الروماني)، وبين أذرعات (التي يعسكر بها الجيش الإسلامي) نهر اليرموك.

وبدأنا نسمع كلمه اليرموك، إذن فقد اقتربنا من الموقعة الكبيرة بإذن الله، والكل مستعد للقتال، وقد قرر المسلمون الثبات والبقاء بعد أن وصل تعدادهم إلى 33 ألفًا: 32 ألفًا

النصر قادم بإذن الله :

القصة والقضية كلها هي مَنِ الجيش الذي سينصر هذا الإسلام؟ ومَنِ الأفراد الذين سيقيمون هذه الدولة؟ الأستاذ سيد قطب في تعليقه على هذه الآية: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ[غافر: 51], يوضح لنا أن النصر لا ينحصر في تحقيق نصر جيش على جيش في فترة من الزمان، ولكنه نصر الدعوة بصورة عامة. قد يكون هذا في عصرك وقد يكون في عصر آخر، ولا يُضيرُك أنت في عصر ما أن تجاهد في سبيل الله، وتسعى حق السعي إلى سيادة الدولة الإسلامية في العالم، ثم لا يتحقق لك ذلك، ولا يمكِّن الله لك ذلك في ذاك العصر، ولكن إن نَصَرَ الله I الدعوة بعد موتك بسنين وسنين، وقرون وقرون، وكنت أنت سببًا في ذلك فهذا نصر لدعوتك، لقد نُصِرْتَ أنت مع أنك مِتَّ، ولم يمُكَّنْ لك، يقول سيد قطب في هذا المقال: "وكم من شهيد ماكان يملك أن ينصر عقيدته ودعوته ولو عاش ألف عام، كما نصرها باستشهاده", أي أن استشهاده نصر دعوته بأشد مما كان يستطيع أن يفعل خلال ألف عام من الدعوة المستمرة, وما كان يملك أن يودع القلوب من المعاني الكبيرة، ويحفز الألوف إلى الأعمال الكبيرة بخطبة مثل خطبته الأخيرة التى كتبها بدمه فتبقى حافزًا محركًا للأبناء والأحفاد وتُنصَرُ الدعوةُ ولو بعد حين, سبحان الله إن ما يجعل لهذا الكلام صدقًا وصدى وانتشارًا في العالم أنه سيكون آخر خطبة كتبها سيد قطب نفسه بدمه، وآخر كلماته في الحياة، وقد لقى الله Iشهيدًا بسبب هذه الكلمات. صدق الله I فصدقه الله I وأعطاه الشهادة، وهذا هو المفهوم الذي يجب أن يرسخ في نفوسنا: أنه لابد أن نكافح من أجل إقامة خلافة الإسلام ودولة الإسلام في الأرض، ونثبت للعالم كله أن الإسلام هو الدين الذي يجب أن يسود، لكن نفهم أنه ليس ضروريًّا أن يتم هذا في عصرنا.

بشارات نبوية:

يجب ألا نستبعد النصر ونقول: أين المسلمون من أمريكا وأوربا واليابان وغيرهم؟ كلهم سبقونا بعصوركثيرة وهم أقوى منا الآن بطبيعة الحال، بل علينا أن نقول: لو رجعنا وتمسكنا بديننا فسينصر الله I هذا الدين لا محالة، وعْدٌ من الله I أنه سيستخلف المؤمنين لقيادة هذه الدنيا، لكن ليس مهمًّا أن تكون واحدًا من هؤلاء الخلفاء أو أن نكون نحن بعض أفراد هذا الجيش المنتصر، وإنما من الممكن أن نكون نواة لنصر هذا الجيش، نقول: إن الذي عنده شك في هذا النصر وأنه سيتحقق لا محالة، وأنه إن شاء الله رب العالمين سيأتي اليوم الذي يدفع فيه الغرب والشرق الجزية للمسلمين، أو يدخلون في الإسلام، أو يقاتلهم المسلمون فينتصرون عليهم، من لديه شك في هذا الأمر فليراجع أحاديث رسول الله ؛ يقول الرسول : "ليبلغنَّ هذا الأمرُ ما بلغ الليل والنهار (أي أنَّ أي مكان يصله الليل والنهار سيصله الإسلام، أي سيبلغ كل الدنيا), ولا يترك الله بيت مدرٍ ولا وبرٍ (مدر هو الحجر، والوبر أي الشعر، يعني ما من بيت في البادية ولا بيت في المدينة يعني كل الدنيا) إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز، أو بذل ذليل، عزًّا يعز الله به الاسلام، وذلاًّ يذل الله به الكفر". رواه ابن حبان وصححه الألباني.

يقول الرسول : "إن الله زَوَى لي (يعني جمع وضمَّ) الأرض؛ فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زُوِيَ لي منها". رواه مسلم, (يعني: أن ملك المسلمين سيبلغ ما زُوِي للرسول  وقد زوي له مشارق الأرض ومغاربها)، ويقول الرسول  في الحديث اللطيف المبشِّر الذي رواه عبد الله بن عمرو بن العاص المقاتل في جيش المسلمين في الشام ضد جيش الرومان ولهذا معنى لطيف يقول أبو قُبَيْل: كنا عند عبد الله بن عمرو بن العاص وسُئِل: أي المدينتين تفتح أولاً: القسطنطينية أم رومية, القسطنطينية عاصمة الدولة الرومانية الشرقية بيزنطة، ومكانها الآن إسطنبول ورومية هي عاصمه الدولة الرومية الغربية ومكانها الآن روما عاصمة إيطاليا؟ يقول: فدعا عبد الله بن عمرو بن العاص بصندوقٍ له حِلَق؛ فأخرج منه كتابًا؛ فقال: بينما نحن حول رسول الله  نكتب إذْ سُئِل رسول الله : أي المدينتين تفتح أولا: القسطنطينية أم رومية؟ فقال رسول الله : "مدينة هرقل تُفتحُ أولاً". أي: القسطنطينية, وقد فُتِحَتْ بحمد الله في عصر الدولة العثمانية على يد محمد بن مراد الملقب بمحمد الفاتح، وتحققت نبوءة الرسول  في الجزئية الأولى، وستتحقق -لا محالة في الجزئية الثانية- هذا أمر لا يقبل الشك، سيدخل المسلمون إن شاء الله رب العالمين روما عاصمة إيطاليا فاتحين.

من مآثر خالد بن الوليد t :

وكان سيدنا أبو عبيدة حيران، يرى سيدنا خالد بن الوليد ساكتًا ولا يدلي بدلوه، وسيدنا خالد بن الوليد ساكت تتناوله الهموم مكتئبًا حزينًا، (حمص) وبعدها (بعلبك) وبعدها (الجابية)، إلى أين سنظل ننسحب هكذ؟ وكان سيدنا خالد بن الوليد -كما يقول الرواة- يرى الرومان أهون عليه من الذباب، ثم يرى الجيش الإسلامي ينسحب خطوة وراء خطوة من أمامهم، فهو معترض على ما يجري، ولا يقبل بأن تُطرح القضية للمناقشة أصلاً، ففي رأيه يجب أن يثبت المسلمون لقتال الرومان؛ فيقول له سيدنا أبو عبيدة: يا خالد ماذا ترى أنت؟ فقال: أرى -والله- إن كنا نقاتل بالكثرة والقوة فهم أكثر منا وأقوى علينا، ومالنا بهم إذن من طاقة، وإن كنا نقاتلهم بالله ولله فما إنَّ جماعتهم ولوكانوا أهل الأرض جميعًا أنها تغني عنهم من شيء (وليس مائتي ألف فقط)، ثم التفت إلى أبي عبيدة وأمسكه وهزه وصرخ فيه، وقال له: أتطيعني أنا إذا أمرتك (أي: أستسمع كلامي إذا أشرت عليك؟), فقال أبو عبيدة وكله ثقة في سيدنا خالد بن الوليد، يعلم أن الحق معه، وأن له نظرًا ثاقبًا في الأمور، ويعلم إخلاص نيته؛ فيقول له: نعم. والله أطيعك. ماذا تقول؟ فقال: فوَلِّني ما وراء بابك (أَمِّرني على الجيوش كلها) فولِّني ما وراء بابك، وخلِّني والقوم؛ فإني لأرجو أن ينصرني اللهُ عليهم؛ فقال أبوعبيدة: قد فعلتُ. (وافق مباشرة أن يولي سيدنا خالد بن الوليد؛ فأُمِّرَ خالد بن الوليد على الجيوش الإسلامية في الشام، وعادت له القيادة من جديد، طبعًا هذا الأمر كله من صلاحيات سيدنا أبي عبيدة بن الجراح فهو لم يؤمِّرْه على الشام، وإنما أَمَّرَه على قيادة الجيش الإسلامي في هذه المعركة، وهذا من صلاحياته؛ لأن أمر سيدنا عمر بن الخطاب أن يُعْزَل سيدنا خالد، ويُعين سيدنا أبو عبيدة ابن الجراح أميرًا على الشام، لكنَّ الجيش الإسلامي في هذه المعركة -كما يرى أبو عبيدة- يحتاج رجلاً مثل خالد بن الوليد ، وهو يثق فيه تمام الثقة؛ فقال له: قد فعلت، وأَمَّرَه على ذلك الجيش.

يقول الرواة عن سيدنا خالد بن الوليد في هذا الأمر: وقد كان معلومًا أن خالد بن الوليد من أعظم الناس بلاءً، وأحسنِهم غَنَاءً، وأعظمِهم بركةً، وأيمنهم نقيبةً، وكان الرومان أهون عليه من الذباب، فكان هو الرجل المناسب في المكان المناسب.

في هذا الوقت وهم جالسون يتشاورون وصلهم الخبر أن الجيش الرومي على بُعد أقل من نصف ليلة من الجيش الإسلامي في (الجابية)، ومن الممكن أن يحدث القتال بعد أقل من 12 ساعة. إذن ماذا يفعلون؟

رسالة من أبي عبيدة إلى أمير المؤمنين عمر :

علم المسلمون بذلك أن الجيش الرومي على أبواب (الجابية) وأن الجيش الإسلامي لم يصلها بعدُ، فالجيشان يتسابقان عليها؛ فقال سيدنا معاذ بن جبل لسيدنا أبي عبيدة بن الجراح: اكتب رسالة إلى عمر بن الخطاب أخبره بالأمر، واطلب منه المدد؛ فأسرع سيدنا أبوعبيدة بن الجراح يكتب رسالة يقول فيها: " أما بعد.. أُخْبرُ أمير المؤمنين -أكرمه الله- أن الروم نفرت للمسلمين برًّا وبحرًا ولم يخلِّفوا وراءهم رجلاً يطيق حمل السلاح إلا جاشوا به علينا، وخرجوا معهم بالقسيسين ونزل إليهم الرهبان من الصوامع (حتى المنقطعين للعبادة نزلوا يقاتلون معهم) واستجاشوا بأهل أرمينيا وأهل الجزيرة (في العراق )، وجاءونا وهم نحو أربعمائة ألف رجل (ويبدو أن هذه كانت أخبارًا مبالغًا فيها نشرها باهان بين جنود الروم لكي يحمسهم بأنهم أربعمائة ألف، فيبدو أن هذه الأخبار جاءت من داخل الجيش الرومي، لكن في واقع الأمر كان الجيش 200 ألف فقط، وهذا عدد ضخم أيضًا)، وأنه لما بلغنى ذلك من أمرهم كرهت أن أغُرَّ المسلمين من أنفسهم، وأن أكتمهم ما بلغني عنهم؛ فكشفت لهم عن الخبر؛ فأخبرتهم بقدر حجم الجيش الرومي، وشرحت لهم الأمر، وسألتهم عن الرأي فرأى المسلمون أن يتنحوا إلى أرض من أرض الشام، ثم نضم إلينا أطرافنا وقواصينا، فالعَجَلَ العَجَلَ -يا أمير المؤمنين- بالرجال بعد الرجال، وإلا -وانتبهوا للاستثناء الذي سيستثنيه لو لم يأتِ المدد بسرعة-  وإلا فاحتسب أنفس المؤمنين إن هم أقاموا (لو ظل المسلمون يقاتلونهم سيهلكون)، واحتسب دينهم إن هم فارقوا (لو فَرُّوا من أرض القتال خسروا دينهم لأنهم فرُّوا من المعركة، فلا تضع المسلمين في هذا الموقف: موقف أن يفقدوا أرواحهم كله، ويُبادُ الجيشُ الإسلاميُّ، أويَفرُّوا من المعركة ويفقدوا دينهم، فقد جاءهم ما لا قبل لهم به، ثم يضيف استثناءً آخر مهمًّا) إلا أن يمدهم الله بملائكته ويأتيهم بغياث من قِبَلِه، والسلام عليك".

(أي أنه بالحسابات المادية لن ننتصر؛ لأن الجيش الذي أمامنا أقوى منا بكثير، فإما أن ترسل إلينا مددًا ننتصر به عليهم، أو تحتسب أنفس المسلمين، أو يُحتَمَل أن يَفِرَّ المسلمون من المعركة، ويخسروا دينهم، ولن ينتصر المسلمون في هذه المعركة بالأسباب المادية وحدها كما يقول إلا أن يأتيهم الله بغياث من عنده، أو يمدهم الله بالملائكة. وهذا الأمر ليس في أيدينا، فإذا فعله الله تعالى؛ فالنصر للمسلمين لا محالة)، أراد أبو عبيدة أن يحمس عمرَ بن الخطَّاب بهذا الخِطَاب، وأرسله مع عبد الله بن قِرْط ، وعندما يذهب عبد الله بن قرط، ويُعْلِم عمر بن الخطاب بالموقف يشتد الأمر على ابن الخطاب، ولما يعلم المسلمون في المدينة بهذا الأمر يزداد بكاؤهم حتى يُسْمَع صوتُ بكاء المسلمين من كل بيت من بيوتهم، يبكون على هذا الجيش الضخم من المسلمين 32 ألف مسلم موجودين في أرض الشام مُعرَّضين للهلكة تمامًا، وتشتد الشفقة عليهم، وتُرْفَع الأيدي بالدعاء إلى الله I أن يُنجِّي الجيش، ويكون أشد الناس خشية عبد الرحمن بن عوف ، ويقول لعمر بن الخطاب: سِرْ بنا يا أمير المؤمنين فإنك إن قدمت الشام فقد شدَّد الله قلوب المؤمنين وأرعب قلوب الكافرين، فكان يرى أن يخرج أمير المؤمنين عمر بنفسه على رأس الجيش إلى الروم.

في نفس الوقت كان سعد بن أبي وقاص منتظرًا قتال الجيش الفارسي الضخم: مائتين وأربعين ألف جندي، والجيش المسلم المكون من 32 ألف جندي موجود على أبواب القادسية، وقبل أن يتحرك الجيش الإسلامي الذاهب إلى القادسية كان بعض المسلمين يريدون خروج عمر بن الخطاب على رأس الجيش؛ فاجتمع كبار الصحابة وأصروا على عدم خروج عمر؛ فأَمَّر بدلاً منه سيدنا سعد بن أبى وقاص.

والآن يتكرر نفس الموقف في أرض الروم فيجتمع الصحابة، ويقولون: لا يخرج عمر، فإن هلك عمر هلك المسلمون (أي بفقدان الخليفة واضطراب الأوضاع)؛ فقالوا: يظل عمر في المدينة، ويرسل الجيوش بعد الجيوش، ويدير الأمور من المدينة، حتى لا يطمع الناس في المدينة نفسها. فما دامت الجيوش الإسلامية تقاتل على جبهتين فالموقف يحتاج شخصًا في المدينة المنورة كعمر بن الخطاب يوازن بين الأمور، ويرسل الجيوش هنا وهناك حسب ما يرى.

يقين ثابت وإيمان لا يتزعزع :

ثم يعطي هذه الرسالة إلى عبد الله بن قرط ، ويقول له: "أسرع إلى أبي عبيدة، وقل له: إن عمر يُقْرِؤُكم السلام، ثم اذهب أنت بنفسك إلى الجيوش وقل لهم: إن عمر يقرؤكم السلام، ويقول لكم: يا أهل الإسلام اصدقوا اللقاء، وشدوا عليهم شد الليوث، واضربوا هامتهم بالسيوف، وليكونوا أهون عليكم من الذَّرِّ (النمل أو الحشرات الهوام) فإنا قد علمنا -انظر يقين سيدنا عمر- أنكم منصورون، فإنا قد علمنا أنكم منصورون، فلا تهولنكم كثرة عدوكم، ولا تستوحشوا بمن لم يلحق بكم منكم" هذا الكلام من سيدنا عمر بن الخطاب لا يجب أن يمر ببساطة، فقد قال جملتين بنفس المعنى: واحدة لسيدنا أبي عبيدة، وواحدة إلى سيدنا عبد الله بن قرط لا بد أن نقف عليها وهى: "وإنكم منصورون إن شاء الله على كل حال", ويقول لعبد الله بن قرط ليخبر الجيوش: "إنا قد علمنا أنكم منصورون", يقين كامل من سيدنا عمر بن الخطاب أن النصر سيكون للمسلمين، من أين أتاه هذا اليقين؟!! هذه حقيقة ثابتة في الكتاب والسنة. إن الله I سيكتب النصر للمسلمين في كل العصور، إن الله I سيكتب النصر للمسلمين على كل حال. إن هم آمنوا وأقاموا الإسلام سيُكتب لهم النصر حتى إذا كانت قوتهم أضعف كثيرًا من القوى المعادية لهم، هذا في عصر الرسول  وفي عصر الصحابة وفي عصرنا وحتى يوم القيامة، هذا وعد الله تعالى. وعد ثابت لا يتغير، يقول الله I: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ[النور:55], هذا هو الشرط:{يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا}[النور:55], متى تحققت العبادة لله I تحقق النصر والتمكين لله في الأرض، وتكون الخلافة الإسلامية إن شاء الله رب العالمين.

مفهوم العبادة الصحيح :

لكن لابد أن نفهم العبادة فهمًا صحيحًا، لا بد أن نوسع مفهوم العبادة كما كان يفهمه سيدنا عبد الله بن عمرو بن العاص، وكما كان يفهمه سيدنا أبو الدرداء ، فالعبادة ليست مجرد خمس صلوات تُقام، وشهر يُصام، وبعض الصدقات، وبعض أمور الخير التى نفعلها لكن العبادة منهج حياة كامل، الإسلام دين شامل ينظم الحياة؛ فإنك تعبد الله I بصلاتك وزكاتك، وتعبد الله I بمعاملاتك مع الناس، وتعبد الله I بجهادك في أرض المعركة، وتعبد الله I بأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر، وتعبد الله I بإتقانك في عملك وبراعتك فيه وإثبات أن المسلمين قادرون على أن يقوموا بأمورهم ولا يحتاجون إلى غيرهم. هذا الأمر كله داخل في مفهوم العبادة. ليست العبادة أن نصلي ونصوم فقط حتى نظن أن الله I لن ينزل علينا النصر إلا في الوقت الذي نصلي فيه، بل لابد أن نأخذ بكل الأسباب الدنيوية والمادية لتحقيق النصر، يقول الله I في بدايات سورة القصص: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ[القصص: 4], فبنو إسرائيل في أشد حالات الضعف، وأشد حالات الاستعباد من فرعون، ولكن يأتي مباشرة خلف هذه الآية التي تعلن استعلاء فرعون في الأرض قوله تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ[القصص:5].

إذن فالله I قادر على كل شيء، لكن لا بد أن تكون هذه الطائفة مستحقة لنصر الله I؛ فإذا آمنت بالله I، وعبدته كما ينبغي له أن يُعبد أتاها نصر الله لا محالة {كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ[المجادلة: 21]، والآية الأخرى في سورة غافر، يقول الله I: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ[غافر: 51], لكي لا يظن أحد أن الرسل فقط هم المنصورون ولكن أيضًا {والذين آمنوا} وليس النصر في الآخرة فقط، بل {في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد} لابد أن يأتي.

ذكاء عمرو بن العاص وحسن تدبيره :

يأتي عبد الله بن عمرو بن العاص بالرسالة إلى أبي عبيدة، ويخبره أن أهل الأردن وفلسطين انتقضوا وبدأوا يفكرون في الهجوم على جيش عمرو بن العاص الموجود في الأردن، فماذا ترى يقول عمرو بن العاص في رسالته؟ إنه يقول: هل آتيك في أي مكان أنت فيه، أو أنتظرك وتأتينى بالمدد؟ فأرسل أبو عبيدة بن الجراح له رسالة: أن انتظر مكانك واصبرْ، فإنا إن شاء الله قادمون.

الجيش الإسلامى مُتَّفَقٌ أنه سينزل إلى الجنوب، فليس هناك داعٍ لأنْ يصعد عمرو بن العاص وبعد ذلك يعود للنزول، ووصَّى أبو عبيدة بن الجراح سيدنا عبد الله بن عمرو بن العاص أن يكون في جانب من الجيش يحمس الناس، وأن يحمس أبوه الجانب الآخر، عندما أتت هذه الأوامر إلى سيدنا عمرو بن العاص بأن يظل في مكانه وينتظر جيش سيدنا أبي عبيدة بن الجراح، خاف سيدنا عمرو بن العاص أن يقوم أهل الأردن وفلسطين أو الجيوش الرومية بثورة عليه، خاصة أن جيش سيدنا عمرو بن العاص صغير جدًّا. فماذا يفعل سيدنا عمرو بن العاص؟ في الحقيقة كان لدى سيدنا عمرو حكمة وذكاء شديد وقد اشتُهِرَ بذلك في التاريخ الإسلامى في كل المواقع تقريبًا؛ لذا فالخطوة الأولى فيما صنعه أن جمع أهل الأردن جميعًا، وقال لهم: إنه بلغني أن أحدكم قد نقض عهده وخبَّأ جنودًا من الرومان؛ فأخرجوا لي هؤلاء الجنود وإلا نقضنا العهد الذي بيننا وبينكم، وجمع الناس كلهم وأخرجهم خارج البلد ووضعهم في مكان معين، وعيَّن عليهم سرية من السرايا، وأمَّر عليهم سيدنا عبد الله بن عمرو بن العاص ليحرسهم في هذا المكان، وهكذا جرَّد أهل الأردن من السلاح لكثرتهم؛ وذلك لأنهم يخبئون بعض جيوش الرومان، وقد كان هذا حقيقيًّا بالفعل، وكان هناك جنود ومقاتلون كثيرون قد تسربوا إلى الأردن وفلسطين، وقد فعل سيدنا عمرو بن العاص ذلك ليمنع وجود قوة متجمعة لهم في مكان واحد.

الخطوة الثانية: أنه أعلن أنه سيذهب إلى قتال حصن ( إيلياء) الموجود فيه تجمُّع الرومان؛ فخاف أهل (إيلياء) من الخروج لقتال سيدنا عمرو بن العاص؛ لمِا رأوا من إقدامه على القتال والهجوم، وقالوا: نتحصن في حصننا، ولم يكن سيدنا عمرو بن العاص يفكر في قتال أهل ( إيلياء )، لكنه أعلن هذا الأمر وهو يعلم أن عيون أهل (إيلياء) سوف تصل بالخبر إليهم؛ حتى يضطروا إلى البقاء في حصونهم ولا يخرجوا للمسلمين، وهذا ما حدث بالفعل فقد وصلت الأخبار الى أهل (إيلياء) أن عمرو بن العاص يفكر في الهجوم عليهم؛ فقالوا: ما دام القتال واقعًا لا محالة، فنظل في حصوننا في انتظاره بدلاً من أن نقاتله في العراء.

الخطوة الثالثة: لكي يؤكد نيته في الهجوم على إيلياء ولا يكتفي بالعيون كتب خطابًا شديد اللهجة موجهًا إلى أ هل إيلياء قال فيه: "بسم الله الرحمن الرحيم من عمرو بن العاص إلى بطارقة إيلياء -البطارقة هم قواد الجيش، ومفردها: بطريق-، سلام على من اتبع الهدى، وآمن بالله العظيم الذي لا إله إلا هو ومحمد رسول الله , وكأنه يعني بذلك: لا سلام عليكم فلو اكتفي بقوله: "السلام على من اتبع الهدى" قد يدعي كل واحد أنه على الهدى والصواب، ولكنه يكمل: وآمن بالله العظيم الذي لا إله إلا هو وآمن بمحمد  فهذا هو السلام عليه أما غير ذلك فليس ثَمَّ سلامٌ, فإننا نُثْني على ربنا خيرًا، ونحمده حمدًا كثيرًا كما رحمنا بنبيه، وشرفنا برسالته، وأكرمنا بدينه، وأعزنا بطاعته، وأكرمنا بتوحيده والإخلاص بمعرفته، فلسنا -والحمد لله- نجعل له ندًّا، ولا نتخذ من دون الله إلهًا، لقد قلنا إذًا شططًا. سبحانه وبحمده جلَّ ثناؤه..

وكل هذه الأمور على خلاف العقيدة النصرانية، فهو يطعنهم في هذه العقيدة وفي نفسياتهم بتبيان ضلالهم، وهداية المسلمين, ثم يقول: الحمد لله الذي جعلكم شيعًا، وجعلكم في دينكم أحزابًا بكفركم بربكم فكل حزب فرحون: فمنكم من يزعم أن لله ولدًا، ومنكم من يزعم أن الله ثانى اثنين، ومنكم من يزعم أن الله ثالث ثلاثة؛ فبُعدًا لمن أشرك بالله وسُحقًا, يفتُّ في عضد الجيش الرومي بتذكيرهم باختلاف عقائدهم ومللهم رغم أنهم في جيش واحد، ثم يذكرهم بالتاريخ الإسلامى في هذه المنطقة؛ فيقول: والحمد لله الذي قتل بطارقتكم، وأذل عزكم، وطردكم من هذه البلاد، وأورثنا أرضكم ودياركم وأموالكم وأذلكم بكفركم بالله، وتركِكُم ما دعوناكم إليه من الإيمان بالله ورسوله؛ فأعقبكم الله الخوف والجوع بما كنتم تصنعون، فإذا أتاكم كتابي هذا فأسلموا تسلموا، وإلا فأقبلوا إلينا حتى أكتب لكم كتابًا أمانًا على دمائكم وأموالكم وأعقد لكم عقدًا تؤدُّون إليَّ الجزية عن يد وأنتم صاغرون, وهذه منتهى الشدة في الكلام, ثم وإلا فوالله الذي لا إله الا هو لأرمينَّكم بالخيل بعد الخيل، وبالرجال بعد الرجال، ثم لأقلعنكم حتى أقتل المقاتلة، وأسبي الذرية، وتكونون كأمة كانت ثم لم تكن", أي أصبحت غير موجودة. سبحان الله العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، فعمرو بن العاص في منتهى العزة، وفي منتهى القوة، وفي منتهى رباطة الجأش.
مباحثات ما قبل اليرموك

انتقل المسلمون من الجابية إلى أذرعات، وانتقل جيش الروم فورًا من الجابية إلى منطقة تسمى دير أيوب على الضفة الأخرى من نهر اليرموك، فأصبح يفصل بين الجيشين نهر اليرموك أو فرع من فروعه يسمى: نهر الحرير، ومكث الجيشان في هذا المكان في انتظار القتال، وبدأ كل جيش يُعِدُّ العُدَّة للقاء الجيش الآخر.

وقد كانت إمدادات الجيشين سهلة: فإمدادات الجيش الرومي كانت سهلة لأنها كانت تأتيه من الشمال حيث لم يَعُد المسلمون يقيمون في شمال الشام نهائيًّا، بالإضافة إلى أن البحر قريب منه؛ فكانت الإمدادات تأتيه عن طريق البحر الأبيض المتوسط أيضًا، والمسلمون -من ناحية أخرى- كانت إمداداتهم سهلة؛ لأن كل الأردن وفلسطين في أيديهم، وهذه المنطقة كانت ذات خيرات كثيرة، والطريق إلى الجيش آمنة؛ فلم تكن هناك مشكلة من المطاولة والانتظار، وحينما وجد الجيش الرومي الوضع على هذه الحال، حاول أن يقصر الفترة بإجبار الجيش الإسلامي على القتال؛ فدفع بفرقة من الفرسان خلف الجيش الإسلامي لقطع الإمدادات، ولكن كانت عيون الجيش الإسلامي منتبهة ومتيقظة؛ فقام سيدنا خالد بن الوليد بنفسه على رأس ألفين من الفرسان، وقاتل هؤلاء الفرسان الروم مقاتلة شديدة، وقتل منهم الكثير؛ ففروا مرةً أخرى إلى دير أيوب وبقي المسلمون في أذرعات.

باهان يعرض الصلح والمسلمون يرفضون:

لما رأى باهان رئيس الروم هذا الوضع بدأ يفكر في صلح جديد (الروم عددهم مائتا ألف أو يزيد، وعدد المسلمين حتى الآن 33 ألفًا فقط، ومع ذلك فالروم يُلقِي اللهُ في قلوبهم الرعب، ويريدون أن يصالحوا المسلمين، ويعقدوا معاهدة معهم حتى بعد أن اصطفَّ الجيشان للقتال)، فأرسل باهان إلى سيدنا خالد بن الوليد يعرض عليه عرضًا جديدًا (لقد كان آخر عرض عرضوه للصلح أيام موقعة بيسان، وقد عرضوا على سيدنا معاذ بن جبل وقتها أن يعطوا الأمير ألف دينار، ويعطوا الرئيس الأعلى منه ألفي دينار، وكل جندي دينارًا، ولو حسبنا المبلغ سنجده سبعين ألف دينارٍ أو يزيد، وهذا مبلغ ضخم في ذلك الوقت، وكان الروم على استعداد لدفع هذا المبلغ للمسلمين) أما هذه المرة فعندما أصرَّ المسلمون على القتال أرسل باهان خطابًا إلى سيدنا خالد بن الوليد الأمير الجديد على الجيش يقول فيه: "قد علمنا أن الذي أخرجكم من دياركم غلاء السعر وضيق الأمر بكم، وإني قد رأيت أن أعطي كل رجل منكم عشرة دنانير, ضاعف المبلغ بنسبة500% من دينارين لعشرة مرة واحدة، عشرة دنانير في 33 ألفًا, أي: 330 ألف دينار وهذا مبلغ ضخم جدًّا في ذلك الوقت، ليس هذا فقط، بل بالإضافة إلى ذلك (وراحلة تحمل حملها من الطعام والكسوة والأدم لكل جنديٍّ) أي أنه سيعطي كل جنديٍّ جملاً، أو أي دابة عليها طعام وكسوة وجلود فترجعون بها إلى بلدكم، وتُعيِّشون بها أهاليكم سنتكم هذه (وكأن ما أخرج المسلمين-في ظنه- أنهم لا يجدون الطعام فخرجوا يبحثون عنه في الشام) فإن كان قابل (العام القادم) أرسلتم إليَّ؛ فأرسل لكم مثلها", إنه تنازل كبير جدًّا، ولو كان المسلمون يريدون الدنيا فقد أتتهم فهذه العروض بالنسبة للعرب مبالغ ضخمة، ولكن سيدنا خالد بن الوليد لم يردَّ إلا ردًّا قصيرًا جدًّا؛ فقد قال لهم: "الإسلام أو الجزية أو القتال", وهي العروض الثلاثة التي يعرضها المسلمون في كل موقعة من المواقع، ولكن الروم لا يفهمون هذا العرض فأخذوا يكررون عروضهم كل مرة، والمسلمون يرفضون؛ فعرف أن القتال واقع لا محالة.

الروم يخشون القتال ويعرضون الصلح:

فعاد الروم إلى جيشهم، وأخذوا يتلاومون على الهرب من المسلمين رغم قلة أعدادهم؛ فقال باهان: والله إني عندي الرأي؛ فقالوا له: قل؛ فقال: أرى أن هؤلاء القوم وقد طعموا من طعامكم ولبسوا من لباسكم ورأوا عيشتكم؛ الموت عندهم أحب من ترك هذه الأشياء (لم يفهم بعدُ أن المسلمين إنما خرجوا لنشر دعوة الإسلام، ولقتال من ناوأها وعاداها، ولم يخرجوا لمغنم)، وقد رأيت أن نسألهم أن يبعثوا إلينا رجلاً فنتفاوض معه ونُطمعهم في شيء يرجعون به إلى أهلهم فلعلنا ندفع خطر الوقعة، ونقي أنفسنا القتال؛ فقالوا له: نِعْمَ الرأي ما رأيت؛ فأرسل الروم رجلاً يطلب أحد المسلمين للمفاوضات؛ فأرسل المسلمون خالد بن الوليد نفسه ليفاوض باهان، وقبل أن يذهب خالد بن الوليد أخبرهم أنه هو القادم للقائهم، وأخذ خيمته معه (وكانت خيمة حمراء ذات شكل مميز) وأمر مجموعة من الحرس أن يذهبوا وينصبوا هذه الخيمة في معسكر الروم ويقولوا لهم: إن خالدًا سينتظر في هذه الخيمة؛ فذهب العسكر المسلمون وأقاموا الخيمة داخل المعسكر الرومي، هذا الأمر وإن كان ظاهره بسيطًا إلا أنه معناه أن الأرض أرض المسلمين نتصرف فيها كيف نشاء، ونضع خيامنا حيث نشاء، لكي لا ننتظر ملككم، ولا نكون رهنًا لمشيئته، وانتقل خالد بن الوليد ومعه الحارث بن عبد الله فقط وسط كل الجيش الضخم: مائتي الألف جنديٍّ فيهم أعظم قواد الروم؛ فلما ذهبا جلس خالد في خيمته، ومكث فيها ساعة حتى جاءه بعض الجنود من جيش الروم يقولون له: إن الأمير مستعد للقائك فخرج خالد بن الوليد من خيمته فوجدهم قد أعدوا له طريقًا يمشى به: على ميمنة الطريق عشرة صفوف من الفرسان، وعلى الميسرة عشرة صفوف أخرى شاهرين السيوف لا يُرَى من الفرسان إلا الحِدَق من كثرة الدروع، ووراء هذه الصفوف العشرة ما لا يحُصى من الخيل، يحاولون إلقاء الرهبة والرعب في قلب هذا الذي جاء يحادثهم، وهيهات فهم عنده أهون من الذباب، وبالفعل مشى سيدنا خالد بن الوليد في هذا الطريق حتى أقبل على باهان.

مفاوضات خالد وباهان:

كان باهان قائد الروم يُكِنُّ في نفسه إعجابًا عميقًا بخالد بن الوليد، ولا يخفي هذا الإعجاب عن جيشه، بل لا يخفيه عن خالد نفسه، فهو يقدِّر هذه العبقرية التي فعلت الأفاعيل في أرض الفرس ثم عادت وفعلتها في أرض الروم، وفي نفس الوقت كان باهان يريد أن يؤثر على سيدنا خالد بن الوليد ويضمه إلى صفه ويُلِين قناته ليترك أمر الجهاد والحرب، ويخدم به أهدافه؛ لذا حاول بقدر الإمكان أن يُكرمه ويتخذه صديقًا؛ فقام له، ورحب به ترحيبًا شديدًا، وقال له: اجلس معي هنا إني علمت أنك من أحساب العرب ومن شجعانهم، ونحن نحب ذا الحسب الشجاع، ولكن سيدنا خالد بن الوليد لم تنطلِ عليه تلك المحاولات، فقد كان فاهمًا لمقصود باهان ولكنه جلس يستمع منه؛ فقال باهان لخالد: قد ذُكِرَ لي أن لك عقلاً ووفاءً، والعاقل ينفعك كلامه، وذو الوفاء يصدق قولُه ويُوثق بعهده؛ فقال خالد بن الوليد: إن كنتُ أوتيتُ العقل, فالله تعالى المحمود على ذلك, والوفاء لا يكون إلا بالعقل, فمن لم يكن له عقل فليس له وفاء, ومن لا وفاء له لا عقل له؛ فقال باهان: أنت أعقل من في الأرض (يحاول تملقه ليكسبه في صفه) وما يتكلم بكلامك ولا يبصره ولا يفطن إليه إلا الفائق من الرجال، ثم أراد باهان أن يستوثق من أن خالدًا بيده مقاليد الأمور في الجيش وأنه إذا اتفق معه على أمر فسيخضع له بقية القادة والجنود؛ فقال له: أتحتاج إلى مشورة هذا الذي معك (يقصد الحارث بن عبد الله؟) فقال خالد بن الوليد بتعجب: إن في عسكرنا هذا أكثر من ألفي رجل لا أستغني عن مشورتهم فكيف بهذا الذي معي؟!!

فارتبك باهان وعلم أنه يتعامل مع عقليات كثيرة وليس مع عقلية نادرة في قومها كما كان يظن؛ فقال لخالد بن الوليد: ما كنا نظن أن عندكم ذلك؛ فقال له سيدنا خالد بن الوليد: ما كل ما تظنون وما نظن يكون صوابًا؛ فقال باهان: صدقت, فقال باهان: أول ما أدعوك إليه، وأكلمك به أن أدعوك إلى خُلَّتي (صداقتي)، وطبعًا هذا عرض يتمناه أهل الأرض جميعًا في ذلك الوقت, فباهان هذا قائد أعظم دولة في العالم، ويقول لواحد من العرب -الذين هم في ظن الرومان رعاة أغنام: أريد أن أكون صديقك من وسط الناس، فقال له سيدنا خالد بن الوليد: كيف ذلك وقد جمعتني وإياك بلدة لا أريد أنا ولا تريد أنت نفترق عنها إلا أخذناها؟!! فقال باهان: فلعل الله أن يصلح بيننا دون قتال أو دون أن يراق دم, فقال خالد بن الوليد: إن شاء الله فعل ذلك. فقال باهان: إني أريد أن ألقي الحشمة بيني وبينك (سأفعل شيئًا يزيل الحرج والتكليف) فإني قد أعجبتني قبتك (الخيمة الحمراء) ووالله إني ما رأيت أحسن منها, فإن شئت أن تهبها لي وتأخذ ما شئت من أموالنا ومن حاجاتنا فعلت.

وطبعًا هذه رشوة مقنعة؛ فالخيمة لا تساوي شيئًا أمام ما يجلسون هم عليه من السُّرُر والبُسُط والحرائر، وهو منتظر أن يطلب منه خالد بن الوليد مبلغًا طائلاً ولن يرفض فهو يريد أن يرشيه رشوة في صورة مهذبة؛ فقال سيدنا خالد بن الوليد: هي لك. خذها ولا أريد شيئًا من متاعك، وأعطاها له؛ فأخذها باهان، ولم يحزن لفشل مسعاه بل ظل يحاول أن ينجح مع سيدنا خالد؛ فقال له: إن شئت بدأناك بالكلام وإن شئت أنت فتكلم؛ فيرد خالد بن الوليد ردًّا في منتهى الحكمة ومنتهى العقل, ويطعن هذا الرومي طعنًا شديدًا في قلبه: فيقول له: ما أبالي أي ذلك كان، ولكني أعلم أنك تعرف ما ندعو إليه وقد جاءك بذلك أصحابك من أجنادين ومن بيسان ومن فِحْل ومن دمشق ومن حمص ومن بعلبك وجاءك ذلك من كل مدائنكم وحصونكم (وذكره بكل هزائم الرومان أمام المسلمين) فلا فائدة أن أبدأ الكلام؛ فاصفرَّ وجهُ باهان وشعر أنه يتحدث مع رجل متمكن، فبدأ باهان يتحدث؛ فقال في بداية الكلام: الحمد لله الذي جعل نبينا أفضل الأنبياء، وملكنا أفضل الملوك وأمتنا خير الأمم,لم يعجب هذا الكلام سيدنا خالدًا فقاطعه وقال: الحمد لله الذي جعلنا نؤمن بنبينا ونبيكم وجميع الأنبياء وجعل الأمير الذي ولَّيْناه أمورنا كرجل منا, فلو زعم أنه ملك علينا لعزلناه عنَّا, ولسنا نرى أن له على رجل من المسلمين فضلاً إلا أن يكون أتقى منه عند الله وأبرَّ، والحمد لله الذي جعل أمتنا أمة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتُقِرُّ بالذنب وتستغفر الله وتعبد الله وحده ولا تشرك به شيئًا (يلمح له سيدنا خالد بما حدث في معسكرهم من انتهاك للحرمات وقتل للنفس ظلمًا وعدوانًا، وقد عَلِمَه سيدنا خالد من عيونه في جيش الروم)؛ قل الآن ما بدا لك؛ فسكت باهان برهة وكأنه نسِي ما يريد أن يقول، ثم بدأ يتكلم من جديد ليمجد أمته؛ فبدأ بحمد الله ولكن بطريقة أخرى؛ فقال: الحمد لله الذي أبلانا فأحسن البلاء عندنا، وأغنانا من الفقر، ونصرنا على الأمم، وأعزنا فلا نذل، ومنعنا من الضيم ولسنا فيما أعزنا الله به وأعطانا من ديننا ببطرين ولا باغين على الناس. (طبعا هذا كله كذب فكيف يكون الروم غير بطرين بما أنعم الله عليهم ولا باغين على الناس وقد فعلت جيوشهم الفواحش في كل الأمم حتى في أمتهم نفسها)، ثم يقول في الجزئية الثانية التي تخص المسلمين.

خالد والتقسيم المبتكر للجيش:

كان هذا الموقف في 25 من جُمَادى الآخرة سنة 15هـ، والجيش الإسلامي الآن مواجه للجيش الرومي، والمسافة بينهما إلى حد ما بعيدة بعرض هذه المنطقة التي يحاربون فيها، وهي على الأقل عشرة كيلومترات، أما طولها فيزيد عن 15 كيلو مترًا، فالمسافة بينهما -إذن- إلى حد ما بعيدة، والجيوش في حرية حركة إلى حد ما أيضًا.

وعندما أراد سيدنا خالد بن الوليد أن يضع خطة المعركة وترتيب الجيوش استحدث في هذا اليوم استحداثًا جديدًا على المعارك الإسلامية، وعلى المعارك بصفة عامة في هذا الوقت، فكان من المعروف أن الجيوش تقاتل على شكل ميمنة وقلب وميسرة، وكان هذا ما خطط له سيدنا خالد بن الوليد في البداية، لكن كان المعتاد أن الميمنة عبارة عن جيش من الجيوش، والميسرة جيش والقلب جيش، جيش سيدنا يزيد في منطقة، وجيش سيدنا شرحبيل في منطقة، وجيش سيدنا عمرو في منطقة، ولكن سيدنا خالد بن الوليد رأى أن مساحة الأرض واسعة، وأعداد الروم كبيرة، وهو يريد أن يعطي الجيش مرونة في الحركة، لكي لا يبقى مقيدًا في مكان واحد وعليه قائد واحد فتصعب الأوامر من هذا القائد على هذا الجيش الضخم من المسلمين 33 ألف جنديٍّ، وليس هناك في هذا الزمن وسائل اتصال تمكِّن القادة من تبليغ الأوامر للجنود بسهولة ويسر؛ فيجمع سيدنا خالد الجنود جميعًا، ويقول لهم: إن هذا اليوم لا ينبغي فيه الفخر ولا البغي (يعني القتال من أجل القبلية والعصبية)؛ ولذلك فإني سأفرقكم حيث يريد الله ويريد رسوله (يعني ما فيه الخير)..

وقد كان معتادًا أن تمثل كل مجموعه قبيلة، أو تتشكل فرقة كاملة من قبيلة واحدة فتقاتل حتى لا يقال: إن الجيش أُتِي من قِبَلِ قبيلة كذا أو كذا، فيقول: إن هذا قد يرجع مرجع الفخر، لكننا لا نريد ذلك هذه المرة، وسنفرق الناس، ولن يعتمد التشكيل الحربي على القبلية، وبدأ بالفعل يقسم الجيش الإسلامي إلى 38 جزءًا (هناك روايات تقول 36، وروايات أخرى تقول 40، والأغلب أنها 38 جزءًا)، وسمَّى كل جزء: كردوسًا، والكردوس هو القطعة العظيمة من الجيش فقسم الجيش إلى 38 جزءًا تقريبا، الجزء يعني 800 أو 900 أو 1000 حسب الجيش، وجعل على رأس كل وحدة منها واحدًا فتصبح الصورة النهائية للجيش كالآتى:

خالد بن الوليد  القائد العام للجيوش، والجيش مُقَسَّم إلى أربعة أرباع: وهناك إدارة عليا هم سيدنا عمرو بن العاصوسيدنا شرحبيل بن حسنة وسيدنا أبو عبيدة وسيدنا يزيد بن أبي سفيان، هؤلاء يعتبرون إدارة عليا يتسلمون الأوامر من سيدنا خالد بن الوليد، ويبلغونها للجيش ويتناقشون سويًّا في الخطة، فهم ليسوا مشتركين فعليًّا في القتال، وإنما يرتبون الخطة، وينقلون الأوامر، وهم بهذا الترتيب سيدنا عمرو في اليمين وسيدنا شرحبيل بن حسنة وسيدنا أبو عبيدة في القلب وسيدنا يزيد في الميسرة، ثم جعل قائد جنود الميمنة سيدنا معاذ بن جبل وتحته عشرة كراديس.

أبطال في صفوف المسلمين:

ومن الأسماء المشهورة تحت قيادة سيدنا معاذ بن جبل: الصمت بن الأسود وذو القلاع الحميري وقد مرَّ ذكرهما قبل ذلك: فالصمت بن الأسود هو الذي لاحَقَ الجيوش الرومية في اتجاه حمص بعد فتح دمشق، وذو القلاع الحِمْيرَِي هو أول مسلم من اليمن تطوع لدخول الحرب في الشام، أما سيدنا هاشم بن عتبة بن أبي وقاص فهو قائد القلب وتحته 18 كردوسًا على كل كردوس قائد مستقل تمامًا بهذا الكردوس، لا يتلقى أوامره إلا من سيدنا هاشم مباشرة، وبعد ذلك من سيدنا خالد بن الوليد، وكان من ضمن الأسماء تحت قيادته: القعقاع بن عمرو التميمي ومذعور بن عدي، وعياض بن غنم كان هؤلاء الثلاثة مع سيدنا خالد بن الوليد في العراق، وجاءوا معه عندما جاء من العراق إلى أرض الشام، وكان من القواد أيضا: عكرمة بن أبى جهل، وسهيل بن عمرو الذي حادث الرسول  في صلح الحديبية وكان في صفوف المشركين وقتها، ها هو الآن في صفوف المسلمين يقاتل لإعلاء كلمة الله، عبد الرحمن بن خالد بن الوليد على رأس كردوس من الكراديس وكان يبلغ 18 سنة، وصفوان بن أمية وكان من أشد المشركين -قبل إسلامه- عنادًا وسطوة على المسلمين، ومع ذلك مَنَّ الله سبحانه وتعالى عليه بالإسلام وها هو الآن يقف على رأس كردوس من الكراديس، سعيد بن خالد بن سعيد وكان أبوه من أوائل الناس الذين تطوعوا للخروج إلى الشام، وأصبح ابنه الآن قائد كردوس من الكراديس، الميسرة عليها قباث بن أشيم وتحته عشرة كراديس أخرى، ومن الأسماء التي تحت قيادة قباث اسم كبير جدًّا هو الزبير بن العوام، الزبير بن العوام على رأس كردوس من الكراديس، وضرار بن الأزور وعصمة بن عبد الله ممن كانوا في جيش سيدنا خالد بن الوليد في العراق، وعتبة بن ربيعة من أهل بدر، وبعدما قسم الجيش 38 كردوسًا وجعل القيادة بهذه الصورة أعطى قدرًا كبيرًا من الصلاحية لكل كردوس؛ فأصبح عنده شيء من المرونة في إطار الخطة العامة التي سينفذها سيدنا خالد بن الوليد، ثم جعل القاضي فيما يحدث بين الناس من خلافات في هذه المعركة أو في هذه الأيام أبو الدرداء ، والقاص (وهو الذي يحمس الناس للقتال) هو أبو سفيان بن حرب، وسبحان الله فالإسلام يعز أهله ويذل الكفار، هذا أبو سفيان بعد الإسلام. انظروا إلى موقف أبي سفيان -قبل إسلامه- مع هرقل وهو يحاول أن يطعن في رسول الله  ولا يستطيع، وهرقل يستجوبه بعدما ألقى جنوده القبض عليه، وأتوا به إليه وهو يحاول أن يستعطفه في الكلمات، وكما رأينا ذلته في حواره مع هرقل, ها هو الآن بعد أن أسلم يتولى تحميس الجيوش الإسلامية لقتال الجيش الرومي الذي كانت العرب تعظمه تعظيمًا لا حدَّ له، الآن هو الذي يحمس الناس للقيام بالجهاد، وتقسيم الغنائم بعد أن تأتى الغنائم إن شاء الله رب العالمين وهذا من التفاؤل الشديد للمسلمين فالموضوع بسيط جدًّا: إن شاء الله سيكون هناك نصر وستوجد غنائم. فمن سيقسمها؟ وإن لم يأتِ النصر فستكون هناك شهادة ويصير المسلمون إلى الجنة، إذن في حالة وجود نصر وغنيمة من سيقسمها؟ سيدنا عبد الله بن مسعود  وأرضاه، إنها أسماء ضخمة جدًّا عظيمة جدًّا في أرض اليرموك، فالقارئ الذي سيقرأ سورة الجهاد على المسلمين هو سيدنا المقداد بن عمرو الذي كان عمر بن الخطاب يقول عنه: رجل بألف رجل، والزبير بن العوام أيضا قال عنه عمر بن الخطاب: رجل بألف رجل؛ فالمقداد بن عمرو كان يمر على الكراديس: واحد تلو الآخر، ويقرأ عليهم سورة الجهاد التي هي سورة الأنفال وهذا ما كان يحدث في أرض القادسية (وسنجري مقارنة بين موقعة القادسية وموقعة اليرموك بعد الانتهاء منها بإذن الله وسنرى حجم التشابه مع أن المسافة بعيدة بين الفريقين، لكن الإيمانيات في الجيشين واحدة؛ فنتج هذا التشابه) جيش المسلمين كان قوامه 33 ألفًا في أصحِّ الروايات منهم ألف صحابي من بينهم مائة بدري، وكل من شهد بدرًا كانوا 313 أو 314 منهم مائة شهدوا اليرموك وسبعون كانوا موجودين في القادسية في نفس الوقت، وطبعًا هناك كثير من أهل بدر استشهدوا في موقعة اليمامة التي كانت مع مرتدِّي بني حنيفة.

بعد أن رتَّب خالد بن الوليد هذه الجيوش مرَّ بنفسه على كل الكراديس يقول لهم: "يا أهل الإسلام إن الصبر عِزٌّ، وإن الفشل عبس، وإن مع الصبر تنصرون فإن الصابرين هم الأعلون، وإن المُحِقَّ لا يفشل, يعلم أن الله معه يذب عنه ويقاتل، وإنه إن قدم على الله أكرم منزلته وشكر سعيه إنه شاكر يحب الشاكرين".

يمر سيدنا خالد بن الوليد على كل كردوس يقول لهم هذه المقالة؛ ليحمس الناس ويشجعهم على القتال فازدادت حمية الجيش، وبدأت النفوس تتشوف إلى الجنة وإلى الجهاد في سبيل الله وأصبح الجنود مستعدين للقتال الآن.

المبارزة مفتاح النصر:

من المتعارف عليه في ذلك الوقت من الزمان أن تبدأ المعارك بالمبارزة بين بعض أفراد الجيشين المتحاربين، ثم يبدأ القتال، وهنا اختار سيدنا خالد أربع مجموعات من الفرسان للمبارزة.

إن الله لا يصلح عمل المفسدين:

في هذا الوقت تحدث قصة في المعسكر الرومي -سنرويها لإظهار الفرق بين سيرة أمراء المسلمين مع الرعية والناس، وسيرة أمراء الروم مع رعيتهم- حيث عاث الجيش الرومي وهو قادم من أنطاكية حتى وصل نهر اليرموك فسادًا في أرض قومهم، فوقعوا على النساء ونهبوا الأموال وأخذوا الديار وسرقوا الماشية وذبحوها وأكلوها بغير حقها، كل هذا يفعلونه في قومهم، وفي أهل دينهم (وقد حدث مثل هذا تمامًا من الجيش الفارسي الذي جاء من المدائن إلى القادسية ليقاتل المسلمين؛ فعاثوا في قومهم الفُرس فسادًا وإجرامًا)، فالموقف يتكرر في كل عصر وكل مكان، فأي جيش من جيوش الطواغيت لا يدين بالإسلام ولا يلتزم به عندما يتملك السلطة لا يقف أمامه شيء؛ فما دامت لديه السلطة وهو مجرد من الإيمان فهو يفعل ما يشاء في العباد حتى لو كان هؤلاء العباد هم عامة الشعب التي يُفترَض أنه يحميها، فلما فعلوا ذلك جاء الناس، واشتكوا وضجُّوا بالشكوى إلى باهان، وباهان قائد الجيش كان معروفًا بالشرف والنُّبل والعظمة، وبكونه رجلاً كريمًا لا يقبل هذه الأمور بتاتًا، كما كان يشتهر بذلك رستم قائد الفرس، ونذكر أنه لما حدث ذلك في الطريق إلى القادسية قام رستم وخطب خطبة عظيمة عن أن هذا لا يجوز في حق المجاهدين والمقاتلين، مع أن الفُرْسَ يعبدون النار، فيقوم باهان أيضا ويخطب خطبة في الناس؛ فيقول: "يا معشر أهل هذا الدين إن حجة الله عليكم عظيمة، إنه قد بعث إليكم رسولاً، وأنزل إليكم كتابًا، وكان رسولكم لا يريد الدنيا وزهَّدَكم فيها، وأمركم ألا ترغبوا فيها، وألا تظلموا أحدًا، فإن الله لا يحب الظالمين، فأنتم الآن تظلمون فما عذركم غدًا عند الله وقد تركتم أمر نبيكم، وما آتاكم من كتاب ربكم؟ وهذا عدوكم قد نزل بكم يقتل مقاتلتكم، ويسبي ذراريكم، وأنتم تعملون بالمعاصي فلا تنزعون عنها خشية العقاب فإن نزع الله سلطانكم من أيديكم، وأظهر عليكم عدوكم فمن الظالم إلا أنتم؟ فاتقوا الله وانصرفوا عن ظلم الناس. طبعًا خطبة عظيمة ورجل جليل؛ فقال له واحد: ما دمت تقول هذا الكلام فإن لديَّ مظلمة؛ فانصرني فيها؛ فقال له: قل لي حاجتك، فقال: كانت لي غنم، وكانت ترعى هذه الغنم زوجتي وابني، فجاء جيش الروم وعليه عظيم من عظماء الروم (يعنى فرقة من فرق الروم، وعليها واحد من العظماء) فجاء هذا العظيم وأخذ حاجته من هذه الأغنام ثم أخذ الباقي ووزعه على أصحابه؛ فذهبت زوجة الرجل إلى هذا العظيم وقالت له: خذ حاجتك من الأغنام التي استوليت عليها ورُدَّ عليَّ ما أعطيت لأصحابك (فيصبح نصف الظلم بدلاً من الظلم كله) ورَضِيَتْ بذلك، فأَمر بها أن تُدخَل خيمته؛ فدخلت خيمته ودخل معها، وطال مكثهما؛ فاقترب ابنها من الخيمة؛ فوجد الرجل يراودها عن نفسها وهي تبكي؛ فصرخ الغلام, فأُمِر به (الغلام) فَقُتِل؛ فخُبرِّ بذلك أبو الغلام؛ فذهب إلى العظيم وقال له: قد سمعت أنك فعلت ذلك بزوجتي وقتلت ابني؛ فقام إليه أشراف من أصحاب هذا العظيم يريدون قتله؛ فقال الرجل: فاتقيتهم بيدي؛ فقطعوها بالسيف، وها هي مظلمتي أشكوها لك؛ فقال له باهان: هل تعرف هذا الرجل؟ فقال: نعم؛ وأشار إلى واحد من عظماء القوم الجالسين في حضرة باهان؛ فقال باهان للرجل العظيم: ما دعاك إلى أن تفعل ذلك؟ فقال: إنما هو عبدي، وهي أمتي, أتريد أن لا أقضي لذتي من أَمَتي، وأن تقتلني بعبدي؛ ثم قام مجموعة من الأشراف بعد أن قال هذه الكلمة وانطلقوا إلى الرجل الذي جاء بالمظلمة؛ وقتلوه أمام باهان نفسه وفي حضرته؛ فقام باهان بعد هذا الأمر، وخطب خطبة ثانية؛ فقال: أما أنتم فقد أتيتم أمرًا عظيمًا، وعصيتم ربكم، وأغضبتموه عليكم، وإذا غضب على قوم فهو ينتقم منهم، والعجب كل العجب كيف لا تُهَدُّ الجبالُ ولا تتفجر البحار ولا تزول الأرض ولا ترعد السماء لهذه الخطيئة التي عملتموها وأنا أنظر إلى أعمالكم العظام (أي تقومون بها أمام سمعي وبصري) إن كنتم تؤمنون بأن لهؤلاء المستضعفين المظلومين إلهًا ينتصر لهم، وينصف المظلوم على الظالم؛ فأَيْقِنوا بالقصاص ومن الآن يُعجَّل لكم بالهلاك، وإن كنتم لا تؤمنون بذلك فأنتم والله عندي شر من الكلاب وشر من الحمير، ولعمري إنكم لتعملون أعمال قومٍ لا يؤمنون، وأما أنا فأشهد أني بريء من أعمالكم، وسوف ترون عاقبة الظلم، ولأي مصير تصيرون، ثم نزل وكفَّ عنهم, ولم يعاقبهم).

قد يظن البعض من هذه الخطب الرنانة التي يقوم بها القادة الرومان -وهم مشهورون بهذه الخطب ومولعون بها- أن أعمالهم على قدر ما تتضمنه هذه الخطب من عظائم الأعمال، لكن -في الحقيقة-كل هذه الخطب نظرية وليس فيها ما يُطَبَّق في أرض الواقع، فهذا الرجل الشريف الذي خطب كل هذه الخطب، وقال كل هذه المواعظ، ويبدو عليه التمسك بالدين لم يفعل شيئًا لهذا العظيم ولم يقتصَّ منه، رغم أنه يملك القوة فهذا الرجل (باهان) أمير كل الجيوش، وأعظم قائد في الدولة الرومية، وقد حدث هذا في حضرته، وحدث مثل ذلك الكثير في حضرة هرقل ذاته ولم يفعل شيئًا.

خالد يختار القادة:

إذن بعد هذه الحادثة بات (باهان) مقتنعًا بأن جيشه يستحق الهزيمة، ولكنه ليست له سيطرة عليه، وعظماء الروم يعيثون في الأرض فسادًا، والله سبحانه وتعالى لا ينصر أمثال هؤلاء بمعصيتهم، بل يُلقِي في قلوبهم الرعب، فجيش الرومان جيش مهزوز، جيش قابل للهروب في أية لحظة، بينما جيش المسلمين جيش ثابت ومؤيَّد بالإيمان وهذا الجيش كله يرغب في الموت أكثر منه رغبة في الحياة كما يقول سيدنا خالد بن الوليد، في هذا الوضع يبدأ سيدنا خالد بن الوليد في ترتيب الجيش بحيث يكون جاهزًا للقتال في أية لحظة؛ لأنه علم أن القتال قد يأتي في أية لحظة بعد توقف المفاوضات برد سيدنا خالد على باهان؛ فقام سيدنا خالد بن الوليد، وذهب إلى خيمة سيدنا أبي عبيدة بن الجراح يحدثه -رغم أنه قائد الجيوش كلها- ويقول له في منتهى الأدب ومنتهى اللطف: يا أبا عبيدة من كنت تجعل على ميمنتك؟ فقال: معاذ بن جبل (وكان سيدنا خالد بن الوليد يعلم هذا الأمر، ولكنه يريد أن يشرك أبا عبيدة في الأمر، ولا يشعره أنه انفرد بالإمارة وأصبح أمير الجيش، وأنه أهمل رأيه رغم أنه الأمير العام للجيوش الإسلامية كلها)؛ فيقول سيدنا خالد بن الوليد: أهل ذلك فوَلِّهِ؛ فجعل سيدنا معاذ بن جبل على الميمنة، ثم قال له: من كنت تجعل على الميسرة؟ قال: غير واحد (كل مرة شخصًا مختلفًا)؛ فقال سيدنا خالد: فولهِّا قباث بن أَشْيَم؛ فيقول أبو عبيدة: قد فعلت؛ فيقول خالد: وأنا على الخيل، وَوَلِّ مَن شئت على الرَّجَّالة (المشاة)؛ فقال أبو عبيدة: أُوَلِّيها إن شاء الله من لا يخُاف نكُوله ولا صدوره عند البأس (لا يهرب من المعركة أبدًا) سيدنا هاشم بن عتبة بن أبى وقَّاص (ابن أخي سيدنا سعد بن أبي وقاص الذي سميناه: المنقذ، عندما جاء مددًا لجيش الشام، وبعد ذلك سيذهب مددًا لجيش القادسية عندما سيحتاج المسلمون هناك إلى المدد)؛ فيولِّيها بالفعل سيدنا هاشم بن عتبة ابن أبي وقاص؛ فيقول سيدنا خالد لسيدنا أبي عبيدة بن الجراح: وُفِّقتَ ورَشدت، ثم يقول سيدنا خالد بن الوليد: أرسل إلى كل راية فَمُرْهم أن يطيعوني (لكي يعرف المسلمون أنه الأمير؛ فلا تتأخر الاستجابة لأوامره في أرض المعركة)؛ فيفعل سيدنا أبو عبيدة بن الجراح ويرسل سيدنا الضحاك بن قيس يمر على كل فرقة وكل كتيبة فيقول لهم: إن أميركم (أبا عبيدة بن الجراح) يأمركم أن تطيعوا خالد بن الوليد فكلما ذهب إلى فرقة قالوا له: سمعنا وأطعنا. سمعنا وأطعنا، ولا يهم الجنود هُوِيَّة القائد، ما دامت القيادة قد اتفقت على أنه قائد معين فكل الجنود يعملون تحت إمرة هذا القائد دون النظر إلى كونهم يحبون هذا القائد أكثر من غيره، فليس هناك جيوب ولا ولاءات داخلية داخل الجيش، فكل الجيش قال: سمعنا وأطعنا؛ فلما مرَّ الضحاك بن قيس بمعاذ بن جبل حدث بينهما حوار لطيف نذكره لدلالاته وعبره.

الأُخُوَّة في الله :

يقول الضحاك بن قيس: لما مررت بمعاذ بن جبل وقلت له: إن أميركم أبا عبيدة بن الجراح يأمركم أن تطيعوا خالد بن الوليد قال معاذ بن جبل: سمعنا وأطعنا ثم التفت إلى الكتيبة التي وراءه وقال لهم: إنكم إن أطعتموه (لو أطعتم خالد بن الوليد) لَتطيعون مبارك الأمر ميمون النقيبة عظيم الغَناء حسن الحسبة والنية.

هذا رأى سيدنا معاذ بن جبل في سيدنا خالد بن الوليد؛ فلما سمع الضحاك بن قيس من معاذ بن جبل هذه الكلمات أعجبته فذهب إلى سيدنا خالد بن الوليد وقال له: لقد قلت قولاً أمام معاذ بن جبل: أن أطيعوا خالد بن الوليد فقال هذه الكلمات، فيقول سيدنا خالد بن الوليد في تواضع: رحم الله أخي معاذًا أما والله إن أحبني فإني لأحبه في الله، لقد سبقت له ولأصحابه سوابق لا ندركها ولا نبلغها ولا ننالها فهنيئًا لهم ما خصَّهم الله بذلك (كان سيدنا معاذ من أوائل من أسلم من الناس، وأسلم سيدنا خالد بن الوليد سنة 7هـ، ونحن الآن في سنة 15هـ)، فلما سمع الضحاك بن قيس هذه الكلمات رجع لمعاذ بن جبل وقال له: لقد قال خالد بن الوليد هذا الكلام؛ فقال معاذ بن جبل: أما إني لأرجو أن يكون الله قد أعطاه -بصبره على جهاد المشركين وشدته عليهم وجهاده إياهم مع حسن نيته بإعزاز دينه- أحسن الثواب، وأن يكون من أفضلنا بذلك عملاً.

فهو يَعُدُّ خالد بن الوليد بفضل جهاده -مع أنه أسلم متأخرًا- من أفضل المسلمين عملاً؛ فذهب الضحاك بن قيس إلى خالد بن الوليد وقال له: إن معاذ بن جبل يقول: إنك من أفضل الناس عملاً؛ فقال خالد بن الوليد: ما شيء على الله بعزيز.

فهناك نوع من الحب الشديد بين الجيش الإسلامي يجعل المطَّلِعَ يشعر أنهم عائلة واحدة، وليسوا مجموعات متشرذمة جُمِعت بالقهر والسطوة والغلبة كجنود الجيش الرومي وجِيءَ بهم عن طريق التجنيد الإجباري على كل الناس من البالغ حتى الشيخ الفاني كما يحدث في هذه العصور، فالجيوش التي تسمى جيوشًا إسلامية كلها تُجَنَّد تجنيدًا إجباريًّا ليس فيها من يذهب للجهاد برغبته، بل يحاول الشاب أن يدفع عدة آلاف من الجنيهات ليتجنب التجنيد، أو يبحث عن الواسطة التي تجنبه التجنيد وتصرفه عن أرض الجهاد.

ولكن يختلف المفهوم هنا اختلافًا كليًّا، وهدف الجيش مختلف، وقائد الجيش مختلف، والمبادئ التي يقوم عليها الجيش مختلفة، ونفس الشخص الذاهب إلى المعركة مختلف، فهذه المواقف لا يمكن قياسها على حالة الجيش الإسلامي في اليرموك.

إذن كان الحب منتشرًا بين أفراد الجيش الإسلامي، وهناك ترابط وأُخوَّة وثيقة نغبطهم عليها، كما نرى موقف الضحاك بن قيس الذي ما إن سمع كلمة طيبة من مسلم في حق أخٍ له إلا وأسرع بنقلها لذلك الأخ؛ لينشر المحبة بين المسلمين، وهذا من أصولنا الإسلامية أن ننقل الكلام الذي يزرع وينمي المحبة بين المسلمين. فهذا واقع الجيش الإسلامي مقارنة بالجيش الرومي.

هرقل يحاول منع جيشه من الهروب:

على الناحية الأخرى يقف قادة الجيش الرومي خائفين من هروب الجنود؛ لأن الجنود غير منسجمين مع القائد، ولا منسجمين مع أنفسهم ولا يوجد بينهم حب ولا في قلوبهم ولاء لجيشهم أو قادتهم أو دينهم، فالاحتمال قائم في هروب الجيش مع أن تعداده 200 ألف والجيش الإسلامي 33 ألفًا فقط، ولا توجد مقارنة.

ومن أجل تفادي احتمال هروب الجيش أرسل هرقل-وهو في أنطاكية- رسالة إلى باهان الموجود في دير أيوب يقول له فيها: انزلوا بالروم منزلاً واسع العطن (العطن: هو مَبْرك الإبل في المكان الذي تشرب فيه) فهو يريد وضع الجيش في منطقة واسعة جدًّا يستطيع المناورة فيها، ومع ذلك ضيقة المهرب لكي يضطر جيشه للقتال ويمنعه من الهرب وهذا أمر قد نستغربه، لكن باهان يفكر في الرسالة فيجد أن تنفيذ هذا الأمر يتطلب أن ينتقل بجيشه من منطقة دير أيوب على ساحل اليرموك غربًا إلى المنطقة المحصورة بين نهر اليرموك ونهر الرِّقاد، وهذه المنطقة في شمال نهر اليرموك عبارة عن منطقة مربعة جنوبها نهر اليرموك الذي يسير من الغرب إلى الشرق، وشرقها وادي (عِلاَّن) وهو وادٍ منخفض، وغربها والشمال الغربي منها نهر اسمه (الرِّقاد)، وبالإضافة إلى ذلك فإن هذه المنطقة المحصورة بين الأنهار هضبة عالية، والناحية الغربية منها منحدر عميق جدًّا وتسمى الواقوصة (والواقوصة هي التي توقص الرجال يعني تهلكهم) أي أن خلفية هذه المنطقه هاوية سحيقة، وليس لها مخرج غير الشمال الشرقي وهي منطقة ضيقة للغاية، فأمر باهان جيشه أن يتوجه من دير أيوب إلى هذه الهضبة الموجودة في شمال نهر اليرموك ويجعل وجهته ناحية الشمال الشرقي فيصبح على يمين الجيوش نهر اليرموك، وعلى شمالها نهر الرقاد وفي خلفها الهاوية (الواقوصة) بحيث لا يستطيع الجيش أن يهرب، ويضطر للوقوف والثبات أمام المسلمين للقتال، ليس هذا فقط, بل هناك أوامر من هرقل بتقييد كل عشرة من الجيش في سلسلة، كما فعل الفرس قبل ذلك في موقعة ذات السلاسل، وحدث مثل ذلك في موقعة القادسية.

اليرموك.. اليوم الأول



يوم الجهاد يوم عظيم من أيام الله I، وكل أيام الجهاد أيام عظيمة وكل ساعات الجهاد ساعات عظيمة، ولكن الله I يفضل أيامًا على أيام ويفضل أمكنة على أمكنة، و هذا اليوم يوم اليرموك من أعظم الأيام في تاريخ الإسلام على الإطلاق، فإن الله I شاء في ذلك اليوم أن يغير من خريطة التاريخ، حيث من الممكن أن ينتصر المسلمون في موقعة والثانية والثالثة ولكن تأتي موقعة بعينها فتغير التاريخ وتغير معها معالم الدولة الإسلامية ومعالم الدولة الرومية أو الدولة الفارسية، وقد مرَّ المسلمون في فتح الشام بمعارك كثيرة ذكرناها بالتفصيل منها: أجنادين ومنها موقعة بيسان وفتح دمشق وفتح بعلبك وحمص ومنها معركة مَرْج الصُّفَّر الأولى والثانية والآن يصل المسلمون إلى موقعة فصل الخطاب وهي من المواقع التاريخية الكبيرة.
والحقيقة أن مقدمات هذه الموقعة كانت ضخمة وقد يعلم البعض أن فتح الشام قد جاء عن طريق موقعة اليرموك فقط، ولكننا ما زِلْنا نتحدث في تاريخ فتح الشام منذ ثلاث سنوات من سنة 12هـ إلى 15هـ حتى أتت موقعة اليرموك فالتاريخ طويل وصعب وعسير قبل موقعة اليرموك والدماء كانت كثيرة..
والآن يلتقي الجيش الإسلامي مع الجيش الرومي في موقعة اليرموك في أرضٍ شمال نهر اليرموك كما تحدثنا من قبل، واضطر الروم إلى قبول الحرب ورفضوا دفع الجزية وقبل المسلمون الحرب أيضًا والتقت الصفوف وهي على أهبة الاستعداد كما ذكرنا من قبل.
وقد مرت الأيام في صف الصفوف والتجهيز للجيشين: الإسلامي والرومي حتى استغرقت من 25 جمادى الآخرة سنة 15هـ إلى 4 رجب سنة 15هـ أى تسعة أيام يصف المسلمون صفوفهم ويصف الروم صفوفهم، ثم أتى يوم 4 رجب فخرج الفريقان ووجد المسلمون أن الجيوش الرومية تتقدم ناحيتهم رغم أن هذا اليوم كان يومًا شديد المطر، ومع ذلك تقدمت الجيوش الرومية فتشاور المسلمون فى الأمر واجتمع مجلس شورى المسلمين وقرروا عدم بدء الحرب لأن الجو غير مناسب، ولم يكن الجيش الإسلامي معتادًا على هذا المطر في أرض الصحراء بالجزيرة العربية؛ فلذلك قرروا الانتظار ولكن إذا بدأهم الروم بالقتال ردوا عليهم وإذا لم يبدأوهم لم يقاتلوهم في هذا الجو الصعب وهذه حكمة من الجيش الإسلامي وحكمة من مجلس الشورى فليس الغرض إلقاء الجيش فى التهلكة ولكن الغرض السعي بقدر الإمكان إلى تحقيق النصر فإن لم يكن النصر فالشهادة.

إسلام جورجه :

ثم خرج من عند الروم قائد عظيم من قوادهم وهو (جورجه) وفي روايات اسمه (جرجه) وقيل: إن اسمه (جورج)، ولكن هذا الرجل العظيم المشهور في التاريخ الإسلامي خرج وطلب خالد بن الوليد، فخرج له خالد أمير الجيوش كلها؛ فلما اقتربا، وكل منهما رافع سيفه وماسك درعه، طلب جورجه الأمان من سيدنا خالد بن الوليد؛ فأمنه خالد وخفض سيفه، فخفض الآخر سيفه ولكن احتمى كل منهما بدرعه يخشى الخيانة من الآخر، واقترب جورجه وخالد بن الوليد في وسط الأرض، بين الجيش المسلم وبين الجيش الرومي ودار بينهما حوار عجيب:
قال جورجه: يا خالد اصدقني؛ فإن الحرَّ لا يكذب، ولا تخدعني؛ فإن الكريم لا يخدع، هل أنزل الله على نبيكم سيفًا من السماء فأعطاكه فلا تسُلَّه على أحد إلا هزمته؟
فقال خالد: لا لم ينزل الله علينا سيفًا من السماء.
فقال جورجه: فبم سُمِّيت سيف الله؟
فقال خالد: إن الله  بعث فينا نبيه  فدعانا؛ فنفرنا عنه، ثم إن بعضنا صدقه وتابعه، وبعضنا باعده وقاتله وكذبه، فكنت ممن باعده وقاتله وكذبه، ثم إن الله أخذ بقلوبنا ونواصينا فهدانا به فتابعناه؛ فقال لي رسول الله : أنت سيف من سيوف الله سلَّه على المشركين، ودعا لي بالنصر فسميت سيف الله بذلك؛ فأنا من أشد المسلمين على المشركين بدعوة رسول الله  لي بالنصر، وبتسميته لي أنني سيف من سيوف الله.. (سيف الله المسلول).
فقال جورجه: صدقتني.. ثم قال: يا خالد إلام تدعوني؟
فقال خالد: أدعوك إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، والإقرار بما جاء من عند الله.
فقال جورجه: فمن لم يجبكم إلى ذلك؟
قال خالد: فعليه الجزية ونمنعه.
فقال جورجه: فإن لم يعطِها؟
قال خالد: نؤذنه بحرب ثم نقاتله.
فقال جورجه: فما منزلة الذي يدخل فيكم ويجيبكم على هذا الأمر اليوم؟
قال خالد: منزلتنا واحدة، فيما افترض الله علينا: شريفنا ووضيعنا، وأولنا وآخرنا.
فقال جورجه: هل لمن دخل فيكم اليوم يا خالد مثل ما لكم من الأجر والذُّخْر؟
فقال خالد: نعم وأفضل..
فتعجب جورجه وقال: كيف يساويكم وقد سبقتموه؟
فقال خالد: إنا دخلنا في هذا الأمر وبايعنا نبينا  وهو حيّ بين أظهرنا تأتيه أخبار السماء، ويخبرنا بالكتب ويرينا الآيات، وحُقَّ لمن رأى ما رأينا وسمع ما سمعنا أن يسلم ويبايع، وأنكم وأنتم لم تروا ما رأينا، ولم تسمعوا ما سمعنا من العجائب والحجج فمن دخل منكم في هذا الأمر بحقيقة ونية كان أفضل منا عند الله..(وهكذا يبين الرسول  في الحديث أن الذى يتمسك بدينه في هذا الزمان: زمان الصَّدِّ عن سبيل الله كالقابض على الجمر، وأجره كأجر خمسين؛ فسأله الصحابة: يا رسول الله خمسين منا أم منهم؟ (أى أجر خمسين من الصحابة أم أجر خمسين من زمانهم) فقال: "بل منكم"، فالقابض على دينه في هذا الزمان والذي يجاهد في سبيل الله ويتقي الله في هذا العصر المليء بالفتن ولا نحسب أن هناك عصرًا أشد فتنة على المسلمين منه حتى هذه اللحظة، والله أعلم بالمستقبل وبالطبع ستكون الفتنة أشدُّ، فالقابض على دينه في ذلك العصر له أجر خمسين من صحابة الرسول  بنص الحديث).
فيقول جورجه: بالله لقد صدقتني ولم تخدعني؟
فقال خالد: بالله لقد صدقتك.. وما بي إليك ولا لأحد منكم من حاجة وإن الله لوليُّ ما سألت عنه.
فقال جورجه: صدقتني..
ثم قلب ترسه وقال: يا خالد علِّمني الإسلام..
فأخذه خالد بن الوليد وأسرع به إلى خيمته وشنَّ عليه الماء من قِرْبَة (أي تخفف الرجل من لباسه بعض الشيء وصبَّ عليه الماء ليغتسل من كفره) فعلمه الصلاة.
كل ذلك والجيشان مصطفَّان أمام بعضهما لم يحدث بينهما قتال؛ فعلمه الصلاة فصلَّى ركعتين دخل بهما الإسلام ثم انطلق بعد ذلك يقاتل يوم اليرموك بجوار خالد طوال المعركة، حتى منَّ الله عليه بالشهادة في نهاية المعركة.. فاستشهد في هذه المعركة في آخرها وكان في أولها كافرًا, فقال خالد: سبحان الله عَمِلَ قليلاً وأُجِرَ كثيرًا، هذا فضل الله يؤتيه من يشاء..
كل الخير الذى فعله في حياته يوم واحد فقط كان يوم جهاد في سبيل الله فسَبَقَ عليه الكتاب فعمل بعمل أهل الجنة فدخلها، سبحان الله!!
و لا نظن أن ذلك كان بسبب الكلمتين اللتين قالهما له سيدنا خالد فى البداية فقط بل كانت سيرة المسلمين في الشام محمِّسة لكثير من الناس للدخول فى الإسلام، فهذا الرجل كانت تحادثه نفسه من قبل ذلك: يدخل في الإسلام أو لا يدخل, حتى حانت له فرصة وخاطب خالد بن الوليد وثَبَتَ على الإيمان، حتى إن هناك بعض الروايات تقول: إن هذا الرجل (جورجه) هو الذي أتى المسلمين قبل موقعة اليرموك إلى سيدنا أبي عبيدة يقول له: أرسل رجلاً إلى باهان يفاوضه، فذهب خالد بن الوليد بعد ذلك.

غلمان المسلمين يطلبون الشهادة في سبيل الله:

ثم خرج رجل من الروم يطلب المبارزة من المسلمين، ونحن نعلم أنه توجد مجموعة من صناديد المسلمين واقفة تنتظر الأمر بالمبارزة، وأثناء وقوف هؤلاء الأبطال خرج هذا الرجل يطلب المبارزة؛ فوجد المسلمون غلامًا من الأزد لا يعرفه أحد وهو دون العشرين، يجري ناحية سيدنا أبي عبيدة بن الجراح ويقول له: يا أبا عبيدة إني أردت أن أشفي قلبي، وأجاهد عدوي وعدو الإسلام، وأبذل نفسي في سبيل الله تعالى لعلي أرزق بالشهادة فهل تأذن لي؟
لم يكن من هؤلاء الرجال الذين نادى عليهم سيدنا خالد بن الوليد، وهو غلام دون العشرين، ولا يعرف اسمه أحد، ولكن الله I يعرفه، فقال: هل تأذن لي أن أخرج فأقاتل هذا الرجل؟
فهزت الكلمات قلب سيدنا أبا عبيدة بن الجراح، وقال له: اخرج فخرج، وعندما همَّ بالخروج التفت إلى سيدنا أبى عبيدة بن الجراح، وقال له كلمة بكى منها أبو عبيدة بن الجراح قال له: يا أبا عبيدة هل لك إلى رسول الله  من حاجة؟ (فهو ذاهب للشهادة فبكى سيدنا أبو عبيدة بن الجراح حتى اخْضَلَّت لحيته).
فقال أبو عبيدة: أَقْرِأ رسول الله  مني السلام وأخبره أنَّا وجدنا ما وعدنا ربنا حقًّا.
فانطلق الغلام المجهول الذي لا يعرفه أحد ولكن الله I يعرفه، كما قال عمر من قبل عندما ذكروا له فتح فارس ومن قتل من المسلمين فقالوا: قُتِلَ فلان وفلان وفلان وأخذوا يَعُدُّون له عظماء الصحابة، ثم قالوا له: وخلق كثير لا تعلمهم، فقال: وما ضرهم ألا يعلمهم عمر يكفيهم أن الله يعلمهم..
وخرج هذا الغلام لهذا الرجل البطل من أبطال الروم فخرج وهو يقول:
لابد من طعن وضرب صائب *** بكل لدن وحسام قابض
عسى أن أفوز بالمواهب *** في جنة الفـردوس والمراتـب
(اللدن: الرمح اللين الذي لا ينكسر، أي فيمسك بالرمح ويضرب به وبالسيف)
وانطلق وقاتل هذا الرجل الرومي حتى قتله، وأخذ فرسه وسلاحه وسلمهما إلى المسلمين وعاد من جديد وقال: هل من مبارز؟
فخرج له ثاني فقتله، والثالث فقتله، ثم الرابع فقتله، فخرج له خامس فحقق له أمنيته، لقاء الرسول  فقطع رقبته؛ فطارت رقبة الغلام على الأرض، واستُشهِد في سبيل الله وطارت روحه الطاهرة إلى السماء في حواصل طير خضر تبلغ رسول الله  سلام أبي عبيدة ورسالته..
ثم قام أبو عبيدة؛ فقال: أليس لهذا الرجل من رجل؟ فتحمس معاذ بن جبل وقال: أنا له (ونحن نعلم أن معاذ بن جبل هو قائد الميمنة) فأمسك به سيدنا أبو عبيدة بن الجراح وقال له: الزم مكانك، سألتك بحق رسول الله  أن تثبت، وأن تلزم الراية فلزومك الراية أحب إليَّ من قتالك هذا الرجل؛ فيتحمس سيدنا معاذ بن جبل ويقول: إذن أنزل من على فرسي، وقال: ألا يريد هذا الفرس وهذا السلاح رجل من المسلمين يقاتل به هذا الفارس؟ فتقدم له عبد الرحمن بن معاذ بن جبل، ابنه، وكان حدثًا، قيل: لم يحتلم وقيل: في أول احتلامه كان عمره 13 أو 14 سنة، وكان عُمْر سيدنا معاذ بن جبل 30 سنة في هذه الموقعة، وهذا أكبر أبنائه عنده 13 سنة؛ فقام عبد الرحمن بن معاذ بن جبل وقال: يا أبت إني لأرجو أن أكون فارسًا أعظم غناء عن المسلمين منِّي راجلاً -ومع أن أباه كان قائد الميمنة إلا أنه كان من المشاة- فأعطني الفرس؛ فأعطاه الفرس والسلاح، وقال: وفقني الله وإياك يا بُني، فقال عبد الرحمن: يا أبتِ إنْ أنا صبرت فلله المنّة عليَّ، وإن أنا قُتِلت فالسلام عليك، ثم همَّ بالخروج، ولكنه عاد يسأل أباه كما سأل الغلام الأزدي، فقال: يا أبتِ أليست لك حاجة عند رسول الله ؟
فقال له سيدنا معاذ بن جبل  وأرضاه: يا بني أقرأه منِّي السلام، وقل له: جزاك الله عن أمتك خيرًا..
وألقى بابنه في أحضان الموت ثم خرج عبد الرحمن بن معاذ بن جبل واقتتل مع الرومي فاختلفا ضربتين فمال الرومي؛ فطاشت ضربة عبد الرحمن وأصابت ضربة الرومي، ونزلت على رأس عبد الرحمن بن معاذ بن جبل فشجتها شجًّا عميقًا، فغطَّى الدم وجهه وظنَّ أنه يموت، وظن الرومي كذلك أنه يموت فعاد إلى أبيه وقال: يا أبتِ قتلني الرومي، فقال معاذ بن جبل والدموع في عينيه: يا بُنيَّ وماذا تريد من الدنيا؟!! فعاد ابنه مرة أخرى بالفرس إلى الرجل ولكن سبحان الله لم تمهله ساعات أجله فسقط شهيدًا من على فرسه، وكان ثاني شهداء المسلمين عبد الرحمن بن معاذ بن جبل وعمره 13 سنة، وذهب إلى رسول الله  يبلغه تحية أبيه معاذ بن جبل؛ فقال أبو عبيدة: فمن له منكم؟ فخرج عامر بن الطفيل الدوسي (عامر الذي تنبأ له أبوه بالشهادة في يوم ما) فخرج عمرو بن الطفيل وما هي إلا لحظات حتى كانت أمعاء الرومي مبعثرة في الأرض، وانتقم من هذا الرومي وكبَّر المسلمون في ساحة المعركة.

الاستعدادات النهائية للمعركة:

بعد صلاة الفجر يقترب الجيش الرومي من الجيش الإسلامي ويبدأ الاستعداد للقتال في اليوم الثاني 5 من رجب سنة 15هـ, وكان هذا اليوم صحوًا ليس فيه مطر؛ فعَلِمَ المسلمون أن القتال سيدور في هذا اليوم، وأتى الروم في جموع كالسَّيْل والليل كما يقول الرواة، وهذا تشبيه صائب ودقيق؛ لأننا ذكرنا أن الجيش الرومي اصطف في أرض مساحتها حوالى 10 كيلومترات، وقد صفَّه قادته صفوفًا؛ فصفوف المشاة عشرون، وعددهم كان 120 ألف جنديٍّ من المشاة، إذًا عرض الجيش الرومي 6000 فرد في عشرين في العمق, ولو حسبنا أن لكل واحد من الجنود مترًا ونصفا يتحرك فيه فمعنى ذلك أن عرض الجيش الرومي 9 كيلومترات، أي 9000 متر؛ فأقبلوا على المسلمين كالسيل لا يُرَى أوله من آخره، وفرسان الروم كانوا 80 ألف فارس، هذا في أصح الروايات، ولكن بعض الروايات تذكر أن الجيش الرومى كان 240 ألف وليس 200 ألف فقط، وروايات أخرى تذكر أنهم 400 ألف, وهذه الروايات جاءت على لسان باهان قائد الروم نفسه عندما كان يخاطب جيشه فيقول لهم: أنتم 400 ألف, أنتم عشرة أضعافهم، ويبدو -والله أعلم- أنه كان يحمِّس جيشه، ولكن الصحيح -والله أعلم- أن عدد الجيش الرومي كان 200 ألف مقاتل: 80 ألف فارس و120 ألفًا من المشاة؛ منهم 30 ألف جنديٍّ من المشاة مسلسلين في القيود: كل عشرة في قيد وذلك ليمنعوا هروبهم وفرارهم من المعركة، ويبدو أن هؤلاء الـ 30 ألفًا هم من جُمِعُوا بالقوة والإجبار والإكراه وليسوا ممن تطوع لمحاربة المسلمين فى هذه المعركة.
وأقبل الروم ولهم دويٌّ كدوي الرعد وأثاروا غبارًا شديدًا، وجاءوا بأعداد ضخمة رافعين الصلبان وواضعين على مقدمتهم القساوسة والرهبان الذين جعلوا يحمسون الجنود، ويقولون لهم: إن هذه معركة بين الإسلام والمسيحية؛ لِيُلقوا في قلوبهم الحمية لقتال المسلمين، وهم يعلمون أن هؤلاء الرهبان ذاتهم قد فرُّوا من المسلمين من قبل في كثير من المواقع وليس في موقعة واحدة، ويتقدم الجيش الرومي ناحية الجيش المسلم في وقع يهز أشد القلوب جسارة، وأشد النفوس قوة، ولكن يبدو -وسبحان الله- أن الجيش الإسلامي ليس من البشر، فما حوله لا يهزه ولا يحرِّك له ساكنًا؛ فثبت المسلمون ولم يلتفتوا إلى هذه الأعداد الضخمة الرهيبة القادمة من ناحية الروم بل زادتهم إيمانًا {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}[آل عمران 173: 175].

غرس الحماسة في قلوب المسلمين:

يسمع خالد بن الوليد وهو على رأس الجيش مقولة من أحد الجنود لم تعجبه (ويبدو أنه كان مضطربًا ولا يعرف كيف يزن الأمور)؛ فقال الجندى: ما أَكثر الرومَ، وما أقلَّ المسلمين! 200 ألف ضد 33 ألف, 1:6 أي لا بد للمسلم أن يهزم ستة من أجل أن يحقق النصر فى المعركة، فغضب خالد غضبًا شديدًا، واحمرَّ وجهه، واهتز وهو يقول له: بل ما أقلَّ الروم، وأكثر المسلمين!! لا يُنصَرُ الناسُ بالعدد، وإنما يُنصَرون بنصر الله I لهم، ويُخذَلون بخذلان الله I لهم، واللهِ لوددتُ أن الأشقرَ بَرَاءٌ (الأشقر هذا هو فرس سيدنا خالد بن الوليد، وهو الذي حارب عليه في كل فتوح العراق، وكان مريضًا فى هذه الموقعة فلم يحارب عليه فيها) وأنهم ضوعفوا في العدد -يعني أصبحوا 400 ألف بدلاً من 200 ألف فى سبيل أن يكون الأشقر سليمًا، فهو يَعُدُّ الأشقر بـ 200 ألف رومي- أتخوفونني بالروم, وكانوا عنده كالذباب لا يمثلون أي شيء، وأشار سيدنا خالد إلى الدعاة أن انطلقوا وحَمِّسوا الناس؛ لأنه شعر أن بعض الأفراد قد هزتهم هذه الكثرة، فانطلق الدعاة يحمسون الناس ويرغبونهم في الجنة فقام سيدنا أبو عبيدة بن الجراح  وأرضاه أمين هذه الأمة؛ فقال: يا عباد الله، انصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم فإنَّ وعد الله حق، يا معشر المسلمين اصبروا فإن الصبر منجاة من الكفر، ومرضاة للرب، ومدحضة للعار، فلا تبرحوا مصافَّكم، ولا تخطوا إليهم خطوة، ولا تبدأوهم بقتال، واشرعوا الرماح واستتروا بالدرق -أي الدروع- والزموا الصمت، إلا من ذكر الله، وسبحان الله كان هذا الصمت له فعل شديد على القلوب الرومية فقد هزهم هذا الصمت، فهذا الجيش يقف ساكنًا لا ينادي بكلمات الجزع، ولا يهرب ولا يفكر في الهرب وهو صامت، وكأن شيئًا لا يعنيه، وكأنهم لا يرون هذه الجموع الرومية كلها إلا كالذباب، كانت هذه خطبة سيدنا أبي عبيدة في اليرموك، وانتقل بها من مكان إلى مكان ينشرها بين الناس، ثم قام سيدنا معاذ بن جبل  وأرضاه أعلم أمة محمد بالحلال والحرام وإمام العلماء يوم القيامة يقول: يا قُرَّاءَ القرآنِ، ومستحفظي الكتاب، وأنصار الهدى، وأولياء الحق، إنَّ رحمة الله -والله- لا تُنال، وجنته لا تُدخَل بالأماني، ولا يؤتي اللهُ المغفرةَ، والرحمة الواسعة إلا الصادقين المصدقين بما وعدهم الله عزَّ وجلَّ، ألم تسمعوا قول الله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا}[النور:55]، أنتم إن شاء الله منصورون فأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم، واصبروا إن الله مع الصابرين، واستحيوا من ربكم أن يراكم فرارًا من عدوكم وأنتم في قبضته ورحمته، وليس لأحد منكم ملجأ من دونه وليس فيكم متعزِّز بغير الله، كانت هذه خطبة معاذ بن جبل قالها فى ميمنته ودار بها على الجيش يقولها ويحمس الناس، ثم قام سيدنا عمرو بن العاص؛ فقال: يا أيها الناس، اشرعوا الرماح والزموا مراكزكم ومصافكم, فإذا حمل عليكم عدوكم فأمهلوهم حتى إذا ركبوا أطراف الأسنة فَثِبُوا في وجوههم وُثُوبَ الأسد.. (يعني لا تبدأوا بالهجوم إلا إذا اقتربوا منكم وصاروا قريبين جدًّا من أسنة الرماح) فوالذي يرضَى الصدقَ ويُثيب عليه، ويمقت الكذبَ ويعاقب عليه، ويجازِي بالإحسان، لقد بلغني أن المسلمين سيفتحونها كَفْرًا كَفْرًا (يعني بلدًا بلدًا) وقصرًا قصرًا، سمع ذلك من رسول الله ، وبشرهم الله I بفتح هذه البلاد في غزوة الأحزاب، والمسلمون محصورون في المدينة، سبحان الله فلا يهولنَّكم جمعُهم ولا عددُهم فإنكم لو صدقتموهم الشدة لتطايروا تطاير أولاد الحجر -بعض الطيور الصغيرة عندما تهش تطير أي وهم كذلك يطيرون، ولا يقفوا لكم ولا يثبتوا أمامكم- ثم قام القاص (والقاص هو الذي يحمس الناس) وهو سيدنا أبو سفيان صخر بن حرب  فيقول: يا معشر المسلمين لا ينجيكم اللهُ منهم اليوم وتبلغون رضوانه إلا بصدق اللقاء والصبر في المواطن المكروهة، ألا إنها سُنَّةٌ لازمة، سنة لازمة أن يحارب المسلمون الكفار وأن يثبت المسلمون في المواطن المكروهة فيحقق الله I لهم النصر، وإن الأرض وراءكم بينكم وبين أمير المؤمنين وجماعة المسلمين صحاري وبَرارٍ (بينكم وبين أمير المؤمنين والمدد مسافات بعيدة جدًّا فلا تطمعوا فى مدد) ليس لأحد فيها معقل إلا الصبر، ورجاء ما عند الله فهوخير معوَّل، فيقول: فاحتفظوا بسيوفكم وتقرَّبوا بها إلى خالقكم ولتكن هي الحصون التي تلجأون إليها وبها تمتنعون، الله الله إنكم أنصار الإسلام وهم أنصار الشرك.

عودة إلى اليرموك:

جاءت الجيوش الرومية وعلى مقدمتها جبلة بن الأيهم الغساني، وتقترب من الجيش الإسلامي والمطر لا يتوقف، فتقف الجيوش ساعة منتظرين القتال ولكن الجيش الرومي يفكر في الانسحاب وعدم القتال؛ فيطمئن المسلمون لذلك ولا يبدأون بالقتال حتى ينسحب الجيش الرومي مرة أخرى ويعود إلى معسكره في انتظار توقف المطر..
سيمر هذا اليوم دون قتال، يوم 4 من رجب سنة 15هـ، و هذه الليلة ليلة 5 من رجب سنة 15هـ يقضي كل الجيش الإسلامي النصف الأول من الليل في قيام الليل وسبحان الله في هذا الجو العصيب, وفي هذه الأخطار المحدقة بالمسلمين وفي الترصد من الروم للجيش الإسلامي, وعلى الرغم من ذلك كل الجيش الإسلامي يقف ويصلي قيامًا لله I..
والحقيقة أننا لا نستطيع أن نفهم ذلك إلا إذا فهمنا أن قيام الليل هذا لبنة من اللبنات المكونة للمجاهد، فتركيب المجاهد تركيب صعب، بناء المجاهد بناء صعب، فليس من السهل أن يصبح المرء مجاهدًا، فقيام الليل لهذا المجاهد لبنة من اللبنات التي تقيم ذلك البناء الصعب، وصلاة الفجر، و قراءة القرآن لبنة من لبنات المجاهد، وحب الخير للناس والسعي لنشر هذا الخير، والجهاد في سبيله لبنة من لبنات المجاهد، وعدم الخوف من أحد غير الله I وعدم الخوف على الرزق وعدم الخوف على الأجل كل هذا لبنة من لبنات المجاهد, وهذه الأمور جميعًا إذا اجتمعت تكوِّن المجاهد، لذلك تستطيع أن تجد فقيهًا ولكنه ليس مجاهدًا وتستطيع أن تجد قارئًا للقرآن ولكنه ليس مجاهدًا، قد تستطيع أن تجد عالمًا أو ناسكًا أو داعيًا لله ولكنه ليس مجاهدًا، ولكن من الصعب أن تجد مجاهدًا في سبيل الله ليس فيه هذه الصفات، فالمجاهد جمع كل هذه الصفات؛ ولذلك جعل الرسول  الجهاد ذروة سنام الإسلام، لأنه جمع كل خصال الخير، فإذا كنت تريد أن تكون مجاهدًا فاعلم أن الطريق طويل وأن البذل كثير وأن الأجر إن شاء الله تعالى على قدر المشقة وعلى قدر الجهد..

بُشْرَى بنصر المسلمين وتشاؤم عند الروم:

تعالوا نعش مع الجيش الإسلامي في هذا اليوم أو هذه الليلة العظيمة، فبعد انقضاء النصف الأول من الليل في صلاة القيام، كان النصف الثاني كله تجهيزًا للجيش الإسلامي، فقد وقف القادة أمام الصفوف يرتبونها ويشجعون الجنود حتى حان موعد صلاة الفجر فاصطفَّ المسلمون لصلاة الفجر، وصلى بهم سيدنا أبو عبيدة بن الجراح لأنه هو الأمير العام للجيوش الإسلامية، فوقف سيدنا أبو عبيدة وقرأ في الركعة الأولى سورة (الفجر): {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ * هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ * أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ[الفجر 1: 14], وأكمل أبو عبيدة الآيات إلى آخر السورة واستمع إلى الآيات راشد بن عبد الرحمن الأزدى أحد المجاهدين من قبيلة الأزد وعندما وصل سيدنا أبو عبيدة إلى هذه الآيات قال: والله لقد ظهرنا على القوم، لَلَّذي أجرى على لسانه هذه الآيات هو الذي ينصرنا إن شاء الله رب العالمين، وعلمت أن اللهI سوف يصب عليهم سوط عذاب، فهؤلاء كعاد مثلهم كمثلهم، يعني نفس الروم مثل قوم عاد بالضبط أكثروا في الأرض الفساد وأن الله I سيصب عليهم سوط عذاب إن ربك لبالمرصاد، واطمأن لذلك راشد بن عبد الرحمن، ثم بدأ الركعة الثانية فقرأ سورة (الشمس) حتى وصل إلى هذه الآيات: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا * إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا * فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا * فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا * وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا[الشمس 11: 15], فقال راشد في نفسه: والله هذه أخرى إن الله I سوف يدمدم عليهم بذنبهم فيسويها على أيدينا؛ لأنهم فعلوا مثلما فعل قوم ثمود من قبل، وهكذا سبحان الله انظروا إلى معايشة المسلم للقرآن فالمسلم الذي يقرأ القرآن باستمرار, ويحاول أن يطبق القرآن في كل مواقف حياته سيجد دائمًا في كل موقف من مواقف حياته آية توجهه توجيهًا معينًا، وتنصحه نصيحة معينة، وتثبته تثبيتًا معينًا، ولذلك لا يصح لأحد المسلمين أن يكون لا يدري معاني كلمات القرآن الكريم، حتى لا يضيع الهدف من قراءة القرآن الكريم وهو أخذ الحكمة وأخذ العبرة وأخذ المنهاج الذي يسير عليه في الدنيا حتى يصل في الأخرة إن شاء الله إلى رضوان الله وجنته.
وتنتهي الصلاة وبعد الصلاة يلتفت سيدنا أبو عبيدة بن الجراح إلى المسلمين ويقول لهم: أيها الناس أبشروا فإني رأيت في ليلتي هذه فيما يرى النائم، وبدأ يقص عليهم هذه الرؤيا؛ ففي صحيح البخاري عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ  يَقُولُ: "إِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ رُؤْيَا يُحِبُّهَا فَإِنَّمَا هِيَ مِن اللَّهِ فَلْيَحْمَد اللَّهَ عَلَيْهَا وَلْيُحَدِّثْ بِهَا, وَإِذَا رَأَى غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَكْرَهُ فَإِنَّمَا هِيَ مِن الشَّيْطَانِ فَلْيَسْتَعِذْ مِنْ شَرِّهَا وَلا يَذْكُرْهَا لأَحَدٍ فَإِنَّهَا لا تَضُرُّهُ".
فلقد رأى سيدنا أبو عبيدة بن الجراح رؤيا فيها بشرى؛ وأراد أن يبشر المسلمين بها؛ فقال لهم: "رأيت فيما يرى النائم كأن رجالاً أتوني فحفوا بي، وعلي ثياب بيض ثم دعوا لي رجالاً منكم أعرفهم، ثم قالوا لنا: أقدموا على عدوكم ولا تهابوهم فإنكم أنتم الأعلون، ثم مضينا إلى عسكر عدونا فلما رأونا قاصدين إليهم انفرجوا لنا وجئنا حتى دخلنا عسكرهم فوَلَّوا مدبرين"؛ ففرح المسلمون بذلك وقالوا: بشرك الله إن هذه بشرى من الله، واطمأن المسلمون لهذه البشرى وتفاءلوا بها، فقال أبو مرثد الخولاني بعد أن سمع هذه الرؤيا من سيدنا أبى عبيدة بن الجراح: والله إني رأيت أنا الآخر رؤيا؛ فقال أبو عبيدة: فحدِّثْ بها؛ فقال: "إني قد رأيت كأنا خرجنا إلى عدونا فلما توقفنا صَبَّ الله عليهم طيرًا بِيضًا عظامًا لها مخالب كمخالب الأسد وهي تنقضُّ من السماء انقضاض العُقْبَان؛ فإذا حازت بالرجل من المشركين ضربته ضربة يخِرُّ منها منقطعًا، وكان الناس يقولون: أبشروا معاشر المسلمين فقد أيَّدكُمُ الله عليهم بالملائكة "؛ فقال أبو عبيدة بن الجراح: بشَّرَك الله بالخير، هذه والله بشرى من الله..
و على الفور أمر سيدنا أبو عبيدة أن تصل هاتين الرؤيتين.

الأعراب على مقدمة الجيش الرومي:

تتقدم الجيوش الرومية نحو المسلمين، واللافت للنظر فى ترتيب الجيش الرومي أن الميمنة عليها رجل يسمى (جورجير)، والميسرة عليها رجل يسمى (درنجر) وكان هذا الرجل ناسكًا من الزهاد العباد ومع ذلك فهو فارس مغوار, فلذلك أجبره هرقل على الخروج على ميسرة الجيش الرومي وكان يكره قتال المسلمين وكان يرى أن الحق معهم، ومع ذلك أُجبر على الخروج فخرج على رأس ميسرة الجيش الرومي.
ومما يلفت النظر أيضًا في تركيبة الجيش الرومي أن الميمنة والميسرة كانتا من الروم، أما القلب ومقدمة الجيش الرومي فكانتا من الأعراب، وكان على مقدمة الأعراب جبلة بن الأيهم الغساني من قبيلة غسان، والحقيقة أن هذا الموقف لا يجوز أن يمر علينا دون أن نقف أمامه لحظة حيث نلاحظ أن الجيش الرومي قد وضع الأعراب أو العرب الموجودين في منطقة الشام في مقدمة الجيوش ليفتدوا الجيش الرومي بأرواحهم وتضيع بذلك دنياهم وآخرتهم، وكان هذا ديدن الجيش الرومي في أرض اليرموك وفي المواقع التى خاضها مع المسلمين، وكان هذا أيضًا ديدن الجيش الفارسي مع المسلمين وعندما تحدثنا عن موقعة (عين التمر) ذكرنا أنه كان فيها خليط من الفرس والأعراب أو من القبائل العربية الموالية للفرس، وقد جعل الفرس الأعراب في مقدمة الجيوش للتضحية بهم، حتى إذا التقت الجيوش الرومية أو الفارسية مع أعدائها كانت الجيوش العربية أو الموالية لهما فى المقدمة فتسقط صريعة فداءً للجيش الرومي أو الفارسي..
الحقيقة أن هذه ليست أمورا تاريخية فحسب، ولكنها أحداث تتكرر في كل وقت وزمان، وهذه سنة الله I..
ومن والى العدو فعليه ذنبه ومصيبته، فقد تكرر هذا من قريب كما نذكر جميعًا منذ خمس سنوات فقط، وفي حرب الخليج الثانية أثناء عملية تحرير الكويت فقد كانت الجيوش العربية في مقدمة الجيش الأمريكي وكانت القوات البرية العربية بأكملها فى المقدمة فى أكثر المواقع خطورة، أما الجيوش الأمريكية والإنجليزية والفرنسية فقد كانت فى الخلف تحارب بالريموت كنترول عن طريق الطائرات أو الصواريخ بعيدة المدى ولا يوجد أي اختلاط بين القوات العربية البرية والجيوش الأجنبية المعادية.
وهذه عبرة من التاريخ تتكرر كثيرًا فيجب علينا أن نتعظ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ[المائدة:51].
ثم نجد الله I في الآية التالية يقول: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ[المائدة: 52].
أي إنهم عندما يوالون هؤلاء الكفار وهؤلاء اليهود والنصارى فإنهم لا يوالونهم حبًّا لهم وإنما لأنهم يرون أن لهم الغلبة، فهؤلاء يرون أنه ليس من المعقول أن نحارب الروم أو الفرس، وليس من المعقول أيضًا أن نحارب أمريكا، فهذا إهلاك للنفوس، وتخريب للبلاد في نظرتهم السقيمة.
ولكن بإذن الله سيأتى الفتح من عند الله I كما قال في سورة المائدة وفى كثير من الآيات..

اليرموك.. اليوم الثاني


تجمع المسلمون والروم عند منطقة اليرموك, وبعد أن التقت القوات الرومية مع القوات الإسلامية في (5 من رجب 15هـ)، بدأ المسلمون يخرجون بعض أبطالهم للمبارزة، التي نتج عنها استشهاد 4 من المسلمين، وقتل خمسة من الروم..

شعر خالد بن الوليد بقلة جيشه (33 ألفًا، مقابل 200 ألف)، وأنه يجب أن يغيروا خطة الحرب، فأتى أبا عبيدة فقال:والله يا أبا عبيدة إن هؤلاء قد أقبلوا بعدد وجَدٍّ وحدٍّ وإن لهم لشدة لا يردها شيء، وليست خيلي بالكثيرة، ولا والله لا قامت خيلي لشدة خيلهم ورجالهم أبدًا (وخيله يومئذ أمام صفوف المسلمين ثلاثة) فقال خالد: قد رأيت أن أفرق خيلي فأكون في أحد الخيلين، وقيس بن هبيرة في الخيل الأخرى (يريد أن يقسم خيله نصفين، كل منهما ألف فارس) ثم تقف خيلنا من وراء الميمنة والميسرة (ميمنة المسلمين بقيادة معاذ بن جبل ، والميسرة عليها قباث بن أشيم) فإذا حملوا على الناس، فإن ثبت المسلمون فالله ثبتهم وثبت أقدامهم، وإن كانت الأخرى حملت خيولنا عليهم وهي جامَّة (أي مستريحة) وهم قد انتهت شدتهم وتفرقت جماعتهم، ثم نحمل عليهم وهم كذلك، فأرجو عندها أن يظفرنا الله بهم ويجعل دائرة السوء عليهم، وقد رأيت أن يجلس سعيد بن زيد (وكان في مؤخرة الجيش ) مجلسك هذا (في المقدمة مكان أبي عبيدة، ويرجع أبو عبيدة إلى المؤخرة) ويقف من ورائك بحذائك مائتان أو ثلاثمائة من الفرسان ذوي الوجوه يكونون للناس ردءًا وأراد من ذلك أنه إذا حاول أحد المسلمين الفرار، فإنه يستحي من أبي عبيدة عندما يراه في الخلف، فيعود مرة أخرى للقتال.. (وليس إجبارًا على القتال، كما يفعل الروم)، قالوا: فقبل أبو عبيدة مشورته وقال: افعل ما أراك الله، وأنا فاعل ما أردت.

كما أشار عليه أن يجعل صفوف المسلمين ثلاثة صفوف فقط، حتى يغطي المساحة عرضًا أمام الجيش الرومي، الذي يبلغ عمقه 20 صفًّا، وعرضه 6 آلاف جندي، أي أن عرضه 9 كلم تقريبًا، يريد خالد أن يغطي مساحة العرض، حتى لا يجعل لهم فرصة في الالتفاف على جيش المسلمين، وهو أمر صعب تكتيكيًّا في القتال، لا يستطيع أن يقوم به إلا المجاهدون المسلمون الأقوياء..

كذلك ذهب إلى معسكر النساء رضي الله عنهن من شرق المنطقة إلى وسط الجيش، يقول لهن: إذا أتاكم أحد المسلمين، فذكروه بالدفاع عنكن، وعن أولادكن (ورد في تاريخ دمشق قوله: يا نساء المسلمين، أيما رجل أقبل إليكنَّ منهزمًا فاقتلنه)، كما أخذ يذكر المسلمين أن نساءهم وبناتهم، إن هم فرُّوا، سيقعن سبايا في أيدي الروم، وهذا سلاح نفسي جديد..

فكان هذا أسلوب خالد  في منع الفرار: بدأ في البداية بأسلوب الخطابة، والموعظة، وقراءة القرآن في الجيش كله (قراءة سورة الأنفال على كل فريق من المسلمين)، كما أرسل إلى جيوش المسلمين الكثير من الخطباء الذين وعظوا الناس، وثبتوهم في هذا المكان.

كما استعمل السلاح النفسي بوضع النساء خلف الجيش، وكذلك بجعل أبي عبيدة في المؤخرة..

الروم يولون الأدبــار!!

واقترب موعد صلاة المغرب، والهجوم كاسح من المسلمين، يقابله تراجع غير محسوب من الروم، واقتراب عنيف من الهاوية، وجاءت الأوامر أن يؤخر المسلمون صلاة المغرب مع العشاء، حتى يصلوها "بعد الفتح"، (وذلك حتى لا ينسى أحد المجاهدين نية "جمع التأخير" فتضيع عليه الفريضة، وهو أمر مثير للاستغراب، فمع كل ذلك القتال العنيف، إلا أن الصلاة تكون دائمًا في أذهانهم)..

ويأتي الليل، ويسود الظلام، فيخترق أحد المسلمين جيش الروم ويصل إلى باهان قائد الروم العظيم، ويقاتله قتالاً قصيرًا، فيقتله..

ويؤثر قتل باهان على نفسية الروم تأثيرًا شديدًا، وتنهار معنوياتهم تمامًا، ويرفع أبو سفيان صوته بالنداء: (يا نصر الله اقترب، الثبات الثبات يا معشر المسلمين) على الرغم من أنه أصبح كفيفًا إلا أنه لا يزال يحمس المسلمين، بإرادة تهد الجبال. (وكأنه يريد أن يمحو حروب سنين طويلة ضد رسول الله)..

يقول الرواة: فكأن الروم حائط، قد هدَّه المسلمون فوقع..

وأظلم الليل، وكانت ليلة ضبابية، فلم يعد المسلمون قادرين على رؤية أحد من الروم، إلا الصف الأول فقط، ويلاحظون أنه يهرب منهم.. حتى أظلم الليل تمامًا، فلم يعد المسلمون يرون أحدًا من الروم..

فتوقف المسلمون عن القتال بعد صلاة العشاء، ووقفت بعض الفرق للحراسة، ولم يكونوا يعلمون من تبقى من الروم، وبدأوا يضمدون جراحهم.

وكان ممن يضمد جراحه عكرمة بن أبي جهل، وكان في اللحظات الأخيرة من حياته، يطلب ماءً ليشرب، فلما جيء له بالماء، سمع أحد المسلمين يطلب الماء، فيقول: اذهب إليه بالماء لعله أحوج إليه مني، فيذهب الرجل ويترك عكرمة، إلى هذا الرجل الثاني، الذي ما إن يصل إليه حتى يسمع استغاثة رجل آخر يطلب الماء، فيقول له: اذهب إليه واسقه، لعله أحوج مني بالماء، فيذهب إليه، ويجده قد مات، قبل أن يشرب؛ فيعود إلى عكرمة فيجده قد مات قبل أن يشرب أيضًا!!! رحمه الله ورضي عنه وأرضاه، فيذهب للثاني فيجده قد مات، فماتوا جميعًا عطشى في الدنيا، ولكنهم يوم القيامة يسقيهم رسول الله ..

يقوم أبو عبيدة بن الجراح  بنفسه بحراسة القوم في هذه الليلة، ويتفقد الجيش الإسلامي، خشية أن يباغتهم الروم في الظلام، وفي مروره يجد فارسين، يتفقدهما، فإذا هما الزبير بن العوام، وأسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، يدوران حول المعسكر لحمايته، فيقول: يا ابن عمة رسول الله  (ويقصد الزبير) ما الذي أخرجكما؟ فيقول الزبير: نحرس المسلمين، ذلك أن أسماء قالت: إن المسلمين مشتغلون بأنفسهم هذه الليلة عن الحراسة، لما لحقهم من التعب والجهاد طوال يومهم، فهل لك أن تساعدني على حراسة المسلمين؟ فأجبتها إلى ذلك.

فعزم عليهما أبو عبيدة أن يرجعا، إلى أماكنهم، فرفضا، وظلا من الليل، حتى صبيحة اليوم التالي، ساهرين في سبيل الله..

ويمر الليل كله بلا اضطرابات، ويصلي المسلمون الفجر، وبعد الفجر يبدأ النور في الظهور، ويتطلع المسلمون لأرض المعركة، فيُفاجأون مفاجأة مذهلة، إذ يجدون القتلى من الروم نحو 50 ألف قتيل، ويجدون في الواقوصة (80 ألف) رومي، أو أكثر ساقطين فيها، إذ تعدهم بعض الروايات 120 ألف رومي، عدهم ابن أخي حسان بن ثابت: شداد بن أوس، أي أن قتلاهم بلغ 130 ألفًا وهرب منهم في بداية المعركة 30 ألفًا، فهناك 40 ألفًا إذاً قد اختفوا.

وهكذا لقي المسلمون أعظم انتصار على أقوى جيش أعده الروم منذ بدأت حروبهم، على الرغم من كل الإعدادات والقساوسة والرهبان، الذين أعدهم (هرقل)، فانتصر المسلمون عليهم انتصارًا رائعًا..

وكان شهداء المسلمين 3 آلاف شهيد فقط.. روت دماؤهم الزكية أرض اليرموك، وفازوا ورب الكعبـة..

وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ * الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ[آل عمران: 169- 175].

دور المرأة المسلمة في المعركة:

وكان ممن قاتل مع المسلمين أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها، وأيضًا جويرية بنت أبي سفيان, فبذلك تكون عائلة أبي سفيان  كلها في المعركة، وهند بنت عتبة –زوجته- تحمس الجيش من الخلف.

بل إن واحدة من المسلمات لا يُعلم اسمها، شوهدت في هذا اليوم، تجري بفرسها وراء رومي، وهو يفر منها، حتى لحقته وقتلته، وقالت بعد أن قتلته: "هذا بيان نصر الله للمسلمين", فإذا وصلت الحرب إلى أن نساء المسلمين يقتلن رجال الروم، فإن في ذلك دلالة على نصر الله للمسلمين.

وفي هذه الأثناء يستقر سهمٌ آخر في العين الأخرى لأبي سفيان ، فيعمى تمامًا، وكثرت الإصابات في أعين المسلمين في ذلك اليوم، حتى أصيبت 700 عين -كما ورد في الطبري- حتى سمي يوم اليرموك في التاريخ بـ  "يوم التعوير".

(فعل المسلمون ذلك في الأنبار، وفتح المدائن).

وهكذا سالت كثير من الدماء، والجراحات، واشتد الأمر تمامًا على المسلمين، ومرت الظهيرة، واقترب وقت العصر، كل ذلك، ولا يزال خالد بن الوليد ، خلف الميمنة، وقيس بن هبيرة خلف الميسرة، بقواتهما لا يقاتلان، والمسلمون يتحملون أشد أنواع الحرب من الروم، بكل صبر..

تغير في موازين القوى:

بعد كل ذلك يتمكن الروم من ضغط ميسرة المسلمين وميمنتهم إلى القلب، وتصبح لديهم الفرصة مواتية للالتفاف على الجيش الإسلامي، وبدأت قوات الروم تتسرب خلف الجيش الإسلامي: من الميمنة، ومن الميسرة، وخالد بن الوليد يراقب عن كَثَب، حتى تسربت القوات الرومية فعلاً وطوقت الجيش الإسلامي من خلفه، وأصبحت قريبة من معسكر النساء، وكانت قوتهم تبلغ 20 ألف مقاتل رومي.

عندئذٍ تحرك "سيف الله المسلول" خالد بن الوليد ، وقال: يا أهل الإسلام،لم يبقَ عند القوم من الجلد والقتال والقوة إلا ما قد رأيتم، فالشدةَ الشدةَ، فوالذي نفسي بيده، ليعطينَّكم الله النصر عليهم الساعة، إني لأرجو أن يمنحكم الله أكتافهم. (في كل خطاباته يظل حريصًا على أن ينسب الفضل لله ).

ويعطي الإذن بالبدء في القتال لفرقته المكونة من ألف فارس. ولفرقة قيس بن هبيرة المكونة من ألف فارس..

فانطلق المسلمون بعد إذن خالد بن الوليد، وكأنهم سيل هادر كان محتجزًا خلف صخرة، رافعين أيديهم بالسيوف، وأصواتهم بالتكبير على ميمنة وميسرة الجيش الرومي يدكونه دكًّا، وبوغت الروم بهذا التحرك مباغتةً شديدة، على الرغم من أن الميمنة والميسرة تبلغ (100 ألف مقاتل) تواجه (ألفي مجاهد)، ولكنهم كانوا غير مرهقين، لم يحاربوا بعد، فكان نشاطهم شديدًا، واشتياقهم للقتال، والأخذ بثأر إخوانهم أكبر، كما أنهم راغبون في الشهادة في سبيل الله، بينما الروم مرهقون أشد الإرهاق، وخائفون من المسلمين، ومباغَتون من هذا الهجوم، الذي باغتهم به خالد بن الوليد، بل كانوا يعتقدون أنهم بمجرد إزاحة الميمنة إلى القلب، والانطلاق خلفها، قد انتصروا، أو تأكدوا من هزيمة المسلمين!!.

فارتطم خالد بن الوليد ارتطامًا شديدًا بميسرة الروم، واقتحم قيس بن هبيرة كذلك بميمنة الروم، وكان نتيجة ذلك نتائج لم يتوقعها أحدهما، إذ إنه في أول هجمة للمسلمين قُتِلَ على الفور (10 آلاف) مقاتل من الروم!!!... {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى[الأنفال: 17], ففوجئ الروم بذلك مفاجأة عظيمة، وأيقن فرسان الروم بالهلاك، وشعروا بأنهم مقتولون لا محالة فلم يكن منهم إلا أن فكروا في الهرب..

ورأى خالد بن الوليد أنهم يجهزون أنفسهم، حتى يستطيعوا الالتفاف من خلف خالد والهروب من المهرب الوحيد خلف الجيش الإسلامي، فلم يكن من خالد بن الوليد إلا أن فكر بواقعية، ولم يغتر بمقتل عشرة آلاف رومي، وإنما ترك لهم فرصة لكي يهرب فرسانهم الآلاف الخمسين، ويتبقى له بقية الجيش، يمكنه التغلب عليه..

فنادى بصوت مرتفع للمسلمين: " أفسحوا لهم الطريق، اتركوهم، ولا تُكرهوهم على القتال"، فهرب في هذه اللحظة (ثلاثون ألف) فارس من الروم، (عشرون ألف من الميسرة المواجهة لخالد، و10 آلاف من القلب).. كل ذلك في الهجمة الأولى..

وكانت النتيجة الثالثة لهذه الهجمة المباغتة أن قائد الميسرة الرومي (درنجر) المتنسك العابد (الذي كان يعلم أنه لا يقاتل على حق) لما رأى ذلك، علم أن ما كان يشعر به كان صوابًا، وتيقن أن النصر حليف المسلمين، وأنه إنما يقاتل القدر، ولا يمكنه أن ينتصر أبدًا، ففعل ما لم يتوقعه أحد من المسلمين، ولا الروم، فجاء بثوب، ولفه حول رأسه، وجلس في أرض القتال، وقال: لا أريد أن أرى هذا اليوم المشئوم!!..

فقد تملك الرعب قلبه، وخانته رجلاه عن الهرب، وجلس ينتظر من يقطع رقبته، الذي سرعان ما جاء فجز رأسه في ثوبه، لِيَمُوت هذا القائد ميتة لم يمتها قائد من قبل!!

بعد ذلك بدأ المسلمون في الضغط على بقية الجيش الرومي، فهجم المسلمون هجومًا شديدًا وحاصروا الروم في المكان الضيق من أرض اليرموك، (تجاه الواقوصة)، وحاربهم المسلمون حربًا شديدًا، وزادت الحمية في قلوب المؤمنين، وارتفعت معنوياتهم بشدة، وظهرت النماذج الفريدة، وأرسل خالد بن الوليد رسائل خاصة؛ فأرسل للزبير بن العوام: أن هذا وقت الاقتحام، والهجوم المضاد، ورسالة إلى القعقاع بن عمرو التميمي، وكان في مقدمة المسلمين، وهاشم بن عتبة، وإلى معاذ بن جبل وإلى شرحبيل بن حسنة، وإلى أبو عبيدة بن الجراح والأشتر النخعي، ويزيد بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، وقباث بن أشيم وهاشم بن مرّ وقيس بن مرّ وضرار بن الأزور والمقداد بن عمرو والمذعور بن عدي وعياض بن غنم وعكرمة بن أبي جهل..

يمر خالد على الناس ويحفزهم، ويقول: أيها المسلمون إن عدوكم يألم كما تألمون، وترجون من الله ما لا يرجون.

التحام الجيشين من جديد:

تقترب الجيوش الرومية من الجيش الإسلامي، ويرتب خالد  جيشه، واستعد للقتال، ووضح من تحركات الجيش الرومي أنه سيهجم بميسرته (وقائدها درنجر القائد المتنسك)، على ميمنة المسلمين بقيادة معاذ بن جبل، وهو الذي سيبدأ الهجوم، والضربة الأولى ستتحملها الميمنة عليه، فلما رأى معاذ جيوش الرماة تقترب منه صاح في جنده: "يا معشر أهل الإسلام إنهم قد تهيئوا للشدة ولا والله لا يردهم إلا الصدق عند اللقاء والصبر عند القراع".

ثم هجمت الكثرة الرومية على القلة المؤمنة، وكان قتالاً شديدًا، استمر فترة طويلة من الزمن، وثبت المسلمون ثباتًا عجيبًا، لا يفهمه الدنيويون..!! ويشتد البأس من قبل الروم، ويبدءون في الضغط على الجيش الإسلامي، والمسلمون ثابتون لا يتحركون، وخالد وفرقته يرون ما يحدث للمسلمين وهم خلف الميمنة، ولا يتحركون؛ لأن الخطة ألا يتحركوا حتى يجهد الروم تمامًا.

وربما كان صبر خالد ومن معه -وهم يرون إخوانهم يتلقون سيوف الروم، ويُقتَلون بها أمامهم، وتروي دماؤهم أرض اليرموك، ولا يتحركون!!- أشد من صبر هؤلاء الذين يتحملون ضربات الروم، وهذا من بُعد نظر خالد ، إذ كان يُصَبِّرهُم، ويقول لهم: "رويدًا رويدًا".

أُرْهِقَ بعض المسلمون في الميمنة من شدة القتال، وبدءوا يتراجعون بظهورهم، وإن كانت بعض الجزر الإسلامية ما زالت تقاتل، فتأتي النساء من الخلف، وكان فيهن السيدة خَوْلة بنت ثعلبة الأنصارية، كانت من المجاهدات في اليرموك، فقالت:

يا هاربًا عن نسـوة تقيـات *** ميت بالسهم وبالمنيات

فعن قليلٍ ما ترى سبيـات *** ولا حصيات ولا رضيـات

فثبت المسلمون، وعادوا إلى أماكنهم...

وكان أشد الضرب في الميمنة على قبيلة "دوس"، التي قتل منها في بداية المعركة عمرو بن الطفيل وابنه جندب بن عمرو، إذ كان أكثر الشهداء في الميمنة منهم، فقام أبو هريرة  وهو من قبيلة دوس، وقال: تزينوا للحور العين، وارغبوا في جوار ربكم، في جنات النعيم، فما أنتم إلى ربكم في موطن من مواطن الخير أحب إليه منكم في هذا الموطن (يذكرهم بأن هذا المكان: أرض الجهاد، أحب إلى الله حتى من المسجد الحرام، والمسجد النبوي، ومن كل الأماكن المقدسة؛ لأن الجهاد قد فرض عليهم في هذا الوقت) ألا وإن للصابرين فضلهم، وحرمة دم المسلم، خير عند الله تعالى من حرمة الكعبة.

الصلاة وسط صليل السيوف:

وحانت الظهيرة (وكان الالتحام قد بدأ عند الشروق) وهي فترة نحو 6: 7 ساعات، والجيش المسلم يحارب أمام سيول متدفقة من الجيش الرومي، ثم تأتي الأوامر بعد الظهر أن يصلي المسلمون الظهر والعصر جمع تقديم، إيماءً على الخيول، بوجوههم فقط..

أي جيشٍ هذا!! وأي قوم هؤلاء، الذين بين صليل السيوف، وتساقط الرءوس، وشدة الحرب، يثبتون، ويهتمون بالصلاة، ولا يتوقفون عن القتال.

يشعر المرء أن الصلاة عندهم كالتنفس، أو كضربات القلب، ليس لها أي ثقل على النفس.

ويصف عبد الأعلى بن سراقة، أحد المجاهدين في الميمنة، موقف المسلمين آنذاك، فيقول: وركب المسلمين أمثال الجبال من الروم، فوالله الذي لا إله إلا هو، لقد رأينا الروم تدور بالمسلمين كما تدور الرحى، فما رأيت موطنًا أكثر قحفًا ساقطًا (القحف هو عظم الجمجمة عندما يطير بالسيف) أو معصمًا نادرًا (زائلاً عن موضعه) أوكفًّا طائحة، من هذا الموطن.. ( أي أن أرض هذا المكان امتلأت بأشلاء القتلى، من عظام الرأس، والأيدي والمعاصم) والناس يضطربون تحت القسطل (أي الغبار الشديد) وقد والله أوحلناهم شرًّا وأوحلونا، حتى لقينا من قتالهم مالم يلقَ أحد من قبلنا من مثلهم قطُّ!!

في أثناء هذا الهجوم العنيف، يصدر (باهان) الأمر الثاني، بتحرك ميمنة الجيش الرومي تجاه ميسرة المسلمين، وترتطم ميمنة الروم ارتطامًا شديدًا بالميسرة المسلمة على رأسها قباث بن أشيم ، وكان هو أشد الناس قتالاً في الميسرة، وكان في المقدمة دائمًا حتى إنه كَسَرَ في الروم ثلاثة رماح وسيفين، وكان كلما كسر رمح من رماحه أو سيف من سيوفه، يقول: من يعير سيفًا في سبيل الله، رجلاً قد حبس نفسه مع أولياء الله، وقد عاهد الله لا يفر، ولا يبرح.

فيعيره المسلمون أحد السيوف، فيقوم، ويقاتل، حتى يكسر سيفه، فيعيد مقولته، فيعيره أحد المسلمين سيفًا آخر، فيذهب ويقاتل... وهكذا..

كما كان يزيد بن أبي سفيان  من أشد الناس قتالاً أيضًا في هذا اليوم، على الرغم من أنه المشرف العام لميسرة المسلمين، يقول حبيب بن مسلمة: كان يزيد بن سفيان من أعظم الناس غَنَاءً، وأحسنهم بلاءً، هو وأبوه جميعًا، فقد كان أبو سفيان  يقاتل تحت راية ابنه يزيد، وهو يقاتل بعين واحدة وكان قد فقد إحدى عينيه في حصار الطائف عام 9هـ, وكان يمر به فيقول له: يا بني عليك بتقوى الله والصبر فإنه ليس رجل بهذا الوادي من المسلمين إلا محفوفًا بالقتال, فكيف بك وبأشباهك الذين ولوا أمور المسلمين أولئك أحق الناس بالجهاد والنصيحة, فاتق الله يا بني والزم في أمرك ولا يكونن أحد من إخوانك بأرغب في الأجر والصبر في الحرب ولا أجرأ على عدو الإسلام منك.

قال: أفعل.

فقاتل يومئذ في الجانب الذي كان فيه واقفًا قتالاً شديدًا

وعلى الميمنة كان الموقف لا يزال شديدًا، وبدأ المسلمون يتراجعون ببطء، ويثبت فيهم عمرو بن العاص ، وقد كان قائد الميمنة، فكل القادة في هذه الحروب يكونون أشد الناس قتالاً، ومن هنا تظهر لنا حكمة اختيار هؤلاء كقادة، لأنهم أقدر على القتال، وليس لمجرد الأفضلية، وإنما الأصلح للمكان...

فيثبت عمرو وجماعة معه، ويشتد عليهم ضغط الروم، فإذا بهم يتراجعون ومعهم عمرو، ولكنهم لا يولون الأدبار، فلما بدأ يتراجع، وشعر نساء المسلمين بأنهم يتراجعون، أسرعت أم حبيبة بنت العاص (أخت عمرو)، فوقفت وراءه، وقالت: قبَّح الله رجلاً يَفرُّ عن حليلته (زوجته)، قبح الله رجلاً يفر عن كريمته (بنته، أو أخته)، فلما قالت ذلك ثبت المسلمون مرة أخرى، وحملوا على الروم حملة شديدة، وكان من أشد المحمُّسات هند بنت عتبة التي كانت تقول: قاتلوا أيها المسلمون، فلستم ببعولتنا إن لم تمنعونا.
أما القلب، قلب جيش المسلمين، فقد جاءت الأوامر من باهان بالتقدم أيضًا للهجوم عليه، وبذلك التحم الجيش الرومي بكامله، مع الجيش الإسلامي.. ولم يكن القتال في القلب بأفضل مما هو عليه في غيره، بل كان على أشد ما يكون، وكان على جزء من المقدمة سعيد بن زيد، وعلى الجزء الآخر هاشم بن عتبة رضي الله عنهما، وكوَّن شرحبيل بن حسنة وهو قائد القطاع الأوسط "القلب" مع سعيد جبهة يقاتلون فيها فلم يكن أحد يقاتل مثلهم، وهم من القادة، وكان سعيد بن زيد يخطب في المسلمين، يقول: {إنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيم[التوبة: 111].

الاستراتيجية العسكرية لخالد بن الوليد:

في المقابل بذل الروم جهودًا أخرى لمنع جنودهم من الفرار، فوضعوا الجيش أمام (الواقوصة) وهي هاوية عمقها أربعمائة متر من هوى فيها مات، كما ربطوا 30 ألف مقاتل منهم بالسلاسل، يضعون كل 10 في سلسلة، حتى يمنعوهم من الهرب!!، هذا بالإضافة إلى الوعود المادية الكثيرة، وقليل منهم من يفكر في الأموال في هذا الموقف؛ فالروح أعز وأهم، فيظلون متشبثين بالحياة، ويفكرون في الفرار طويلاً..

وهذا هو الفرق بين الجيش الإيماني، جيش العقيدة، وجيش دنيوي، مما يضع أمامنا بعض مفاتيح النصر..

ونتوقف لنقرأ تحليل أحد المحللين العسكريين الألمان المعاصرين (كلاوس فيتز) في القرن التاسع عشر، الذي كان أقوى محلل عسكري في ذلك الوقت، ويذكر في كتابه (في الحرب): أن أروع لحظات الدفاع هي لحظة الانتقال السريع والقوي إلى الهجوم كضربة ثأر بسيف بتار، والطرف الذي لا يفكر في هذه اللحظة منذ البداية، ولا يدخلها عند نشوب العمليات في مفهوم دفاعه، لا يمكن أن يفهم أبدًا تفوق الدفاع.

يرى أن الدفاع خير وسيلة للهجوم، فيظل الجيش في الدفاع، حتى يستهلك العدو قوته، ثم يبدأ الهجوم، وهذه أروع لحظات المعركة، وفيها تُشَلُّ قوة العدو.

وقد وضعها في القرن 19 الميلادي، ثم جاء محلل آخر يدعى (ليدل هاد) يسمونه: نبي الاستراتيجية العسكرية في القرن العشرين؛ فنقض نظرية الألماني في جزء منها، فقال:

إن الهدف من المعركة هو إحداث صدمة تربك تفكير العدو، بتوجيه ضربة له في مكان لا يتوقعه، وإحداث خسارة مادية تؤثر على نفسية العدو.

(وبذلك فهو يرى أن الأجدى ليس الدفاع، وإنما توجيه ضربة للعدو لا يتوقعها، تحدث خسارة مادية، تكون نتيجتها انهيار معنويات العدو).

ثم يقول: وحاول أن تخلق الفوضى في صفوف عدوك، إذا كنت تنوي ضربه الضربة الساحـقة، ويؤيد (كلاوس فيتز) في جزئية أخرى، تخص ما نحن بصدد الحديث عنه هنا، فيقول: إذا كان عدد الجنود في معسكرك يقل عن عدد الجنود في معسكر العدو (كموقف المسلمين في موقعة اليرموك) فحاول مؤقتًا أن تعطيه فرصة للهجوم على معسكرك، ولا تهجم عليه.

وأكبر الظن أنك ستواجه ناحية ضعيفة في معسكر العدو، لتفاجئه أنت بالهجوم، عندئذٍ استجمع كل قوتك، واعزم على النصر، وسيكون النصر حليفك.

ولو نظرنا لخطة خالد بن الوليد ، ثم قارناها بما يقوله خبراء العسكرية بعده بقرون، لوجدنا خالدًا في الجزء الأول من المعركة في اليرموك كان عازمًا على الأخذ بخطة "كلاوس فيتز" الأولى، وهي أنه يدافع حتى تنهك قوى الجيش الرومي، ثم يقتحم بعد ذلك، ويهجم عليهم، وفي الجزء الثاني من المعركة، أراد أن يفاجئ جيش الروم بضربة تحدث خسارة مادية واضحة، وتؤثر على نفسيتهم، ومعنوياتهم.

وبذلك استعمل خالد  النظريتين معًا في هذه المعركة، قبل خبراء العسكرية بنحو 13 قرنًا، وهاتان النظريتان يدرسان في الكليات العسكرية الآن، ولا يشار بأي كلمة إلى أن هناك قائدًا مسلمًا طبَّق هذه النظريات في موقعة واحدة، هو سيف الله المسلول  وأرضاه.

وللأسف الشديد لم نقدر نحن سيدنا خالد قدره، فلم نقم حتى بتدريس هذه النظريات العسكرية الإسلامية المبتكرة في مدارسنا، أو كلياتنا العسكرية!!

بين اليرموك والقادسية



بعد انتصار المسلمين في موقعة اليرموك، وانهزام جيش الروم هزيمة نكراء، وهروب 70 ألف مقاتل، (30 ألفًا أثناء القتال، و40 ألفًا بعد ذلك).
كانت قوة الجيش الإسلامي آنذاك 30 ألف مجاهد، وقد اعتادوا أن يلاحقوا الفارِّين بعد كل معركة، فخرجت قوة مكونة من 5 آلاف مجاهد، بقيادة "خالد بن الوليد"  لتعقب الفارين، حتى لا يعودوا للقتال مرة أخرى، وبالطبع فإن 5 آلاف قادرين على ردع الـ 70 ألف، لاختلاف الدوافع عند كل منهم، واختلاف العوامل النفسية، بين فارين منهزمين، ومنتصرين أقوياء..
فيخرج خالد بن الوليد في إثرهم، عن طريق دمشق، ويقابل في الطريق بعض فلول الجيش الرومي، فيقاتلهم، ويبيدهم عن آخرهم، في معركة قصيرة جدًّا، ثم يصل إلى دمشق (100 كلم) بعد يوم صعب من القتال، فخرج له أهل دمشق، واستقبلوه، وقالوا له: إنهم على العهد معه (الصلح)، وأنهم سيدفعون الجزية، فأقرهم خالد على ذلك، وقبل منهم نفس العهد السابق، وأخذ منهم الجزية، واتجه فورًا في اتجاه حمص في إثر بقية الفلول الرومية الهاربة، وقابل في طريقه إلى حمص مجموعة أخرى من الروم في ثنية العقاب، فحاربهم وانتصر عليهم انتصارًا سريعًا، وأبلى فيها الأشتر النخعي بلاءً حسنًا.
ثم انطلق باتجاه حمص (نحو 225 كلم)، وهناك وجد أهل حمص –كذلك- يخرجون إليه، يؤكدون أنهم على العهد، لرضاهم بالجيش الإسلامي، فقبل منهم خالد، وأخذ منهم الجزية، وبقي في حمص في انتظار الأوامر من أبي عبيدة .
وبعد أن عرف أبو عبيدة بوصول خالد إلى حمص ترك فرقة في اليرموك على رأسها بشير بن كعب، وتوجه إلى دمشق, وأرسل من هناك رسالة لعمر بن الخطاب ، يبشره فيها بالفتح والنصر! ومعها خمس الغنائم، فقال في رسالته: "لعبد الله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، من أبي عبيدة بن الجراح، سلامٌ عليك، فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد، فالحمد لله الذي أهلك المشركين، ونصر المسلمين، وقديمًا ما تولَّى اللهُ أمرهم، وأظهر نصرهم، وأَعَزَّ دعوتهم، فتبارك الله رب العالمين، أُخبرُ أمير المؤمنين أنا لاقينا الروم في جموع لم تلق العرب مثلها قَطُّ، فأتوا وقد علموا أنه لا غالب لهم اليوم من الناس أحد، فقاتلوا المسلمين قتالاً شديدًا ما قُوتل المسلمون مثله في موطن قط، ورزق الله المسلمين الصبر، وأنزل عليهم النصر، فقتلهم الله في كل قرية، وكل شعب، وكل واد، وكل جبل، وسهل، وغنم المسلمون عسكرهم، وما كان فيه من أموالهم، ومتاعهم، ثم إني اتبعتهم بالمسلمين حتى أني بلغت أقاصي بلاد الشام حمص، وقد بعثت إلى أهل الشام عمالي، وقد بعثت إلى أهل إيلياء أدعوهم إلى الإسلام -أي القدس- فإن قبلوا وإلا فليؤدوا إلينا الجزية عن يَدٍ وهم صاغرون، فإن أبوا سرت إليهم حتى أنزل بهم، ثم لا أزايلهم حتى يفتح الله على المسلمين إن شاء الله، والسلام عليكم".
ففي هذه الرسالة بشر أبو عبيدة عمر بالنصر والفتح، وأخبره بتوجهاته التالية، وهي إرسال جيوشه إلى أقاصي الشام، ورسله من اليرموك إلى القدس (إيلياء)، وهي لم تُفْتَحْ بعدُ.
ولما وصلت الرسالة إلى عمر بن الخطاب  فرح بها فرحًا شديدًا، ولم تنم المدينة ليلتها، بل باتوا فرحين يهنئ بعضهم بعضًا بالنصر، ثم أرسل عمر رده إلى أبي عبيدة، يقول له: "من عبد الله أمير المؤمنين إلى أبي عبيدة بن الجراح، سلامٌ عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد،
فقد أتاني كتابك وفهمت ما ذكرت فيه من إهلاك الله للمشركين، ونصره للمؤمنين وما صنع لأوليائه وأهل طاعته، فأحمد الله على حسن صنيعه إلينا، واستتم الله ذلك بشكره، ثم اعلموا أنكم لم تظهروا على عدوكم بعدد ولا عدة ولا حول ولا قوة، ولكنه بعون الله ونصره، ومنه وفضله، فلله المنُّ والطَّوْل، والفضل العظيم، والسلام عليكم ".
فهذه رسالة عمر بن الخطاب في وقتٍ غدا هو فيه رئيس أعظم دولة في العالم آنذاك، ومع ذلك نلمح في خطابه التواضع، ونسبة الفضل كله لله، وأن النصر كله من عند الله ، وأنهم جند الله، ليس لهم من الأمر شيء.
بعد توجه أبي عبيدة إلى دمشق واستقراره فيها، تأتيه خطبتان متشابهتان لمعركتين مختلفتين:

في القادسية:

خطبة سعد في القادسية جاء فيها: "إن الله هو الحق وحده لا شريك له في الملك، وليس لقوله خلف، وهو يقصد قول الله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُون[الأنبياء: 105]. وقال في آخرها: فإن تزهدوا في الدنيا، وترغبوا في الآخرة، جمع الله لكم الدنيا والآخرة، ولا يقرب ذلك أحدًا إلى أجله, وإن تهنوا وتفشلوا وتضعفوا، تذهب ريحكم، وتوبقوا آخرتكم".
وجاء في خطبة عاصم بن عمرو في القادسية أيضًا: "إن صبرتم، وصدقتموهم الطعن والضرب، فلكم أموالهم ونساؤهم وأبناؤهم وبلادهم، وإن خرتم وفشلتم، والله لكم جار وحافظ، لم يبق من هذا الجمع منكم باقية", ثم يقول: "اجعلوا الآخرة همكم، يا معاشر العرب إنكم تخاطرون بالجنة، وهم يخاطرون بالدنيا، فلا يكونُنَّ على دنياهم أحوط منكم على آخرتكم، لا تحدثوا أمرًا تكونوا به شينًا على العرب غدًا".

وفي اليرموك:

جاء في خطبة أبي عبيدة: "يا عباد الله انصروا الله ينصركم، ويثبت أقدامكم، فإن وعد الله حق، يا معشر المسلمين اصبروا، فإن الصبر منجاة من الكفر، ومرضاة للرب، ومضحدة للعار، فلا تبرحوا مصافكم، ولا تخطوا إليهم خطوة، ولا تبدأوهم بقتال، والزموا الصمت إلا من ذكر الله".
ولمعاذ بن جبل: استشهد بقوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ[النور: 55], وقال: "أنتم إن شاء الله منصورون، فأطيعوا الله ورسوله، ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم، واصبروا إن الله مع الصابرين، واستحيوا من ربكم، أن يراكم فرارًا من عدوكم، وأنتم في قبضته، ورحمته، وليس لأحدٍ منكم ملجأ من دونه، وليس فيكم متعززٌ بغير الله سبحانه"
- في الخطبتين نلاحظ الحث على الصبر، ووحدة الصف الإسلامي، والرغبة في الآخرة، وحتمية انتصار المسلمين، إن شاء الله، وتركيبة الجيش المسلم النفسية واحدة، مما أنتج هذا التشابه.
من هذا التشابه الموجود في المعركتين، يطرأ سؤال، هل سنجد موقعة، أو معركة حربية كبرى قريبة ينتصر فيها المسلمون، ويمكنون في الأرض؟
والإجابة بالتأكيد بالإيجاب؛ لأن الله I وعد بذلك، فنحن لا يهمنا الزمان، ولا المكان، وإنما نحن على يقين، بأن معركة ما قريبة، سينتصر فيها المسلمون -لا شَكَّ- على أعدائهم، ولكن ما يهمنا هو صفة هذا الجيش المسلم، وهو أنهم فرسان بالليل رهبان في النهار.
ثم نعود بعد ذلك إلى أرض الشام، حيث يبدأ أبو عبيدة في تقسيم الشام إلى قطاعات أربع، يولي على كل قطاع رجلاً من المسلمين، وفي كل قطاع تتم تصفية جميع الجيوب الرومية المتبقية.
هناك أقوال أنها كانت عام 13هـ.

أوجه المقارنة والشبه بين اليرموك والقادسية:

على ذكر القادسية، وتوجه المسلمين من الشام إلى العراق، نعقد مقارنة بين الجيشين، والمعركتين، وخاصة أنه هناك عدد من نقاط التشابه بينهما، (مثلما قدم ابن تيمية مقارنة بين الأحزاب، وبين حروب التتار) فعوامل النصر ثابتة، ولو تكررت هذه العوامل في جيش من الجيوش لا بد من تكرر النتائج.
وكذلك فإن عوامل الهزيمة لو توفرت (حتى لو كان جيشًا مسلمًا) فإن النتيجة ستتحقق، فإذا تذكرنا هزيمة المسلمين الوحيدة في الشام التي كانت في مَرْج الصُّفَّر الأولى، وهزيمتهم الوحيدة في فارس التي كانت في موقعة الجسر، نجد أن أسباب الهزيمة متقاربة، أهمها: اختيار قائد غير محنَّك في القيادة، على الرغم من تميزه بالشجاعة والإيمان، (خالد بن سعيد في مرج الصفر، وأبي عبيد بن مسعود في الجسر), لكنهما افتقدا المهارة في القيادة، ولذلك اعترض البعض على توليهما إمارة الجيوش.

جدول المقارنة :

يفصل بين الموقعتين مئات الأميال، ولكن الشبه قريب بينهما:
اليرموك - القـادسيـة
الجيش الإسلامي: 32 ألف مجاهد - 32 ألف مجاهد.
المدد: ألف بقيادة سعيد بن عامر - 6آلاف بقيادة هاشم بن عتبة.
المـجـموع: 33 ألف - 38 ألف (من اليوم الثاني في القتال).
القائـد العـام: أبو عبيدة بن الجراح - سعد بن أبي وقاص
(وكلاهما من العشرة المبشرين بالجنة، ومن أوائل من أسلم من المسلمين، على يد أبي بكر الصديق ).
قائد المعـركـة: خـالد بن الولـيد - خالد بن عرفطة
لثقة أبي عبيدة في قيادته - (لأن سعد  كان مريضًا، وتملأ جسمه الدمامل؛ فارتفع فوق حصن يراقب المعركة، وهو نائم على بطنه).
أهل بـدر: 100 منهم - 70 منهم يشاركون في المعركة.
تقسيم الجيش: 38 كردوسًا (الكردوس من800 إلى ألف) - 10 أقسام.
صفة الجيش الإسلامي: رهبـان في اللـيل، فرسـان في الـنهـــــار (وهي شهادة الأعداء قبل المسلمين، فهي شهادة الجواسيس المرسَلين من قِبَلِ الفرس والروم، في أرض المعركة) وهذه الصفة لو تحققت في أي جيش، وفي أي عصر من العصور، لتحقق لهم النصر دائمًا.
طريقة تجميع الجيش: التـطـوع - يدعوهم الخليفة للجهاد، فيخرج من يريد منهم، وذكرنا ما حدث من نفور المسلمين في البداية من الخروج.. وكلهم يرجو الشهادة في سبيل الله.
بعض الصحابة: الزبير بن العوام، سعيد بن زيد - سلمان الفارسي، النعمان بن مقرن، وإخوته العشرة (الأعراب). معاذ بن جبل، أبو هريرة، أبو الدرداء، عبد الله بن مسعود - عبد الله بن أم مكتوم (على الرغم من أنه ضرير) عمرو بن العاص، المقداد بن عمرو، أبو ذر الغفاري - وقد استشهد في اليوم الثالث من القتال. وعبد الله بن سلام (اليهودي الذي أسلم) - ربعي بن عامر (ومعروف حديثه مع رستم)، زيد بن صوحان (رجل تسبقه يده إلى الجنة). حنظلة بن الربيع، سعد بن عبيد، عطارد بن حاجب، سهيل بن عدي، أرطأة بن كعب (استشهد).
ومن الصحابيات: هند بنت عتبة، أسماء بنت أبي بكر - الخنسـاء
خولة بنت ثعلبة، جويرية بنت أبي سفيان.
واشترك في المعركتين: القعقاع بن عمرو، وهاشم بن عتبة، المغيرة بن شعبة، عمرو بن معديكرب، قيس بن هبيرة،عياض بن غنم.
جيش الأعداء: 200 ألف رومي - 240 ألف فارسي.
نوعهم: روم وعـرب - فرس وعرب.
القائد في المعركة: بـاهـان (أعظم قوادهم) - رسـتـم (أعظم قوادهم).
وقُتِلا في أرض المعركة من خلال جندي غير معروف من المسلمين.
أقوى أسلحتهم: الفـرسـان 80 ألف - الفِيَلَة (33 فيلاً).
صفـة الجيشين: الإفسـاد في الأرض، والتسلط على الجنود.
وهذا ديدن كل جيش، أو سلطة لا تُبْنى على عقيدة، أو إيمان، حتى وإن كان مسلمًا في ظاهره.
طريقـة تجميع الجيش: الحديد والنار، إجباريًّا على كل بالغ حتى الشيخ الفاني!! ويسلسلون من يخشون هروبه.

المشاركات الشائعة