بمجرد عودة رسول الله من غزوة تبوك، جاء إليه بعض المنافقين يطلبون منه الصلاة في مسجد بنوه بالقرب من قُباء، ولهذا المسجد قصة مهمَّة، وهو الذي عرف في التاريخ بمسجد الضِّرار، وكان المنافقون باتفاق مع أبي عامر الفاسق الذي مرت بنا قصته عند الحديث عن قدوم الرسول من مكة إلى المدينة مهاجرًا، والذي كان يَدَّعي أنه على الحنيفية، فلما جاء الرسول إلى المدينة رفض الإسلام، وكره الرسول ، وترك المدينة إلى مكة، ثم فرَّ من مكة عند فتحها إلى الشام، ومن الشام راسل المنافقين في المدينة المنورة للقيام بعمل يفسد على المسلمين حياتهم، ويفرق صفهم.
وكانت الفكرة التي تبناها أبو عامر الفاسق هي بناء مسجد آخر إلى جوار قُباء؛ ليجذب إليه مجموعة من المسلمين، فلا يذهبون للصلاة في المسجد النبوي، ولا في مسجد قُباء، وبذلك تتشتت قوة المسلمين، إضافة إلى الأفكار الهدّامة التي من الممكن أن تُبَثَّ من خلال هذا المسجد.
وقد يعجب الإنسان من أن المنافقين يتجهون إلى بناء مسجد، لكن ما أكثر المساجد التي بناها المنافقون في التاريخ والواقع! وقد تكون مساجد عملاقة وواسعة وفخمة، ولكن لا تُبنى إلا لبثِّ ما يريدون من أفكار تعارض الفهم الصحيح للإسلام، ومن ثَمَّ تكون هذه المساجد أخطر على المسلمين من الأسلحة الفتاكة، أو من الجيوش الغازية. وشبيه بالمساجد إنشاء المدارس العلمانية والتبشيرية، والجامعات التي يغلب عليها الانحراف، والقنوات الفضائية، والمحطات الإذاعية، والجرائد، والمجلات، والكتب، وكل ما يمكن أن يؤثر سلبًا على أفكار الناس عن طريق إثارة الشبهات، وتعميق الفتن في المجتمع.
والخطير أن القائمين على هذه الأعمال المضلة قد يسعون إلى إثبات شرعيتها بدعوة من يثق الناس بهم لافتتاحها، أو للعمل بها بصورة غير مؤثرة، بحيث تبقى الهيمنة، والإدارة، والقرار بين المنافقين الذين أسسوه.
وهذا عين ما فعله المنافقون في المدينة المنورة، فقد بنوا هذا المسجد، وحاولوا أن يضفوا عليه شرعية بدعوة الرسول للصلاة فيه، ولكنهم جاءوا إلى رسول الله وهو في طريقه إلى تبوك، ولم يكن جاهزًا آنذاك للذهاب معهم، فقال لهم: "إِنِّي عَلَى سَفَرٍ، وَحَالِ شُغْلٍ، فَلَوْ قَدِمْنَا لأَتَيْنَاكُمْ، وَصَلَّيْنَا مَعَكُمْ فِيهِ".
الوحي يفضح المنافقين
خرج إلى تبوك، ومرت الأيام، وعاد إلى المدينة المنورة، فأسرع إليه المنافقون ليقوموا بدعوته إلى الصلاة في المسجد الذي بنوه، ولكن نزل جبريل في ذلك الوقت بالتحذير الإلهي من ذلك المسجد الضار بالمسلمين، وذلك بمجموعة من آيات سورة التوبة:
خرج إلى تبوك، ومرت الأيام، وعاد إلى المدينة المنورة، فأسرع إليه المنافقون ليقوموا بدعوته إلى الصلاة في المسجد الذي بنوه، ولكن نزل جبريل في ذلك الوقت بالتحذير الإلهي من ذلك المسجد الضار بالمسلمين، وذلك بمجموعة من آيات سورة التوبة:
{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:107، 108].
فلما نزلت هذه الآيات أرسل رسول الله مجموعة من الصحابة كان منهم مالك بن الدَّخْشَم، ومَعْن بن عدي، وعامر بن السكن وغيرهم، وذلك لهدم مسجد الضِّرار هذا، وبالفعل قام الصحابة بتحريق وهدم المسجد بعد أن كشفت نيّات المنافقين، ولينجو المسلمون من أزمة كبيرة كادت تعصف بالأمة الإسلامية.
وعلى الرغم من الفتن الكثيرة التي قام بها المنافقون قبل ذلك، إلا أن هذه هي المرة الأولى التي يكون فيها التعامل من رسول الله بهذه الشدة، فقد كان من عادته مع المنافقين أن يتسامح ويعفو، ويعذر ويسكت، مع علمه بنفاقهم، إلا أن خطورة هذا المسجد كانت أكبر من خطورة أفعالهم السابقة؛ لأنها خطورة تأخذ شكل الدين، وسيقع عوام المسلمين في حبائل المنافقين؛ لأن اللافتة المعلنة هي المسجد، والإسلام، ورأي الدين.
وهذا يلفت أنظارنا إلى خطورة منافقي زماننا الآن الذين يتحدثون باسم الدين، ويأتون بالأدلة الشرعية على صدق ما يقولون، فهم -ولا شك- أشد خطورة من أولئك الذين يطعنون في الدين، ويثيرون الشبهات، ولذلك كان ردّ فعل الرسول بهذه الصورة.
كما ينبغي ألاّ يفوتنا أن نحذر الدعاة والعلماء المسلمين من أن المنافقين قد يحاولون استغلالهم في بعض الأعمال الدينية؛ وذلك لإضفاء شرعية على أعمالهم الخبيثة، ولا بد أن يكون الدعاة على وعيٍ كامل بصفات المنافقين وطرقهم وأساليب خداعهم.
ولا شك أن ما فعله بهدم مسجد الضِّرار كان ضربة قاصمة للمنافقين في هذه الفترة.
موت عبدالله بن أبي بن سلول
وشاء الله أن تحدث ضربة أخرى قاصمة للمنافقين، لتصبح هذه هي الضربة الثالثة للمنافقين في خلال شهرين اثنين فقط، فكانت الضربة الأولى هي اختبار تبوك الذي كشف أوراق المنافقين بالمدينة لجميع المسلمين، وكانت الضربة الثانية هي هدم مسجدهم الفاسد، أما الضربة الثالثة فكانت موت أكبر زعماء النفاق في المدينة، والذي تولى كبر حركة النفاق لمدة سبع سنوات متتالية، وحتى العام التاسع من الهجرة، وهو عبد الله بن أُبيّ بن سلول.
وشاء الله أن تحدث ضربة أخرى قاصمة للمنافقين، لتصبح هذه هي الضربة الثالثة للمنافقين في خلال شهرين اثنين فقط، فكانت الضربة الأولى هي اختبار تبوك الذي كشف أوراق المنافقين بالمدينة لجميع المسلمين، وكانت الضربة الثانية هي هدم مسجدهم الفاسد، أما الضربة الثالثة فكانت موت أكبر زعماء النفاق في المدينة، والذي تولى كبر حركة النفاق لمدة سبع سنوات متتالية، وحتى العام التاسع من الهجرة، وهو عبد الله بن أُبيّ بن سلول.
وعبد الله بن أُبي بن سلول تاريخه مع المسلمين أسود حالك السواد، فما أكثر الفتن التي أثارها، والمصائب التي زرعها في الصف المسلم. وتعرضنا في هذا السيرة لعدة مواقف من حياته سواء في أُحُد، أو في الأحزاب، أو في بني المصطلق، أو في الخروج للحديبية، أو في تبوك، ووصل الأمر إلى أنه قاد حملة للطعن في شرف أم المؤمنين الطاهرة عائشة بنت الصديق رضي الله عنهما، ناهيك عن موالاته للمشركين واليهود، وما ذكرناه من مواقفه أقل بكثير مما أغفلناه.
ولكن لكل شيء نهاية، المؤمن يموت، والمنافق كذلك يموت، الصادق يموت، والكاذب كذلك يموت، وكما تعب الصالحون من أبناء هذه الأمة، وجاهدوا وأنفقوا وضحوا؛ كذلك تعب عبد الله بن أُبيّ بن سلول، وجاهد وأنفق وضحى، لكن شتّان بين من يجاهد في سبيل الله، ومن يجاهد في سبيل الشيطان! قال الله تعالى: {وَلاَ تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء:104].
وجاءت لحظة ظنها عبد الله بن أُبيّ بعيدة، جاءت لحظة الموت، مرض عبد الله بن أُبيّ بن سلول في أواخر أيام شوال سنة 9هـ، واستمر مرضه عشرين يومًا، ومع أنه كان يدرك أن هذا هو الموت، وظهر ذلك في كلماته، إلا أنه كما قال الله : {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ} [التوبة:87].
رسول الله يزور ابن سلول في مرضه
العجيب، واللافت للنظر، والذي يحتاج إلى وقفات عديدة هو أن رسول الله كان دائم الزيارة له في بيته يعوده في مرضه الأخير، سبحان الله! بعد كل هذا الآلام التي سببها عبد الله بن أُبي بن سلول ما زال رسول الله يزور هذا الرجل، وهو ليس فقط من مردة المنافقين، بل هو أشدهم على الإطلاق، وكان رسول الله يزوره لأكثر من هدف:
العجيب، واللافت للنظر، والذي يحتاج إلى وقفات عديدة هو أن رسول الله كان دائم الزيارة له في بيته يعوده في مرضه الأخير، سبحان الله! بعد كل هذا الآلام التي سببها عبد الله بن أُبي بن سلول ما زال رسول الله يزور هذا الرجل، وهو ليس فقط من مردة المنافقين، بل هو أشدهم على الإطلاق، وكان رسول الله يزوره لأكثر من هدف:
- فهو ما زال يرجو إسلام عبد الله بن أُبي بن سلول، وبرغم تاريخه الطويل في النفاق، إلا أن القلوب بين أصابع الرحمن، فلعل الله أن يغير قلبه في اللحظات الأخيرة فيُستنقذ من الكفر إلى الإيمان، وينجو من النار إلى الجنة، "وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة، فيدخل الجنة".
والرسول في ذلك يضرب أروع الأمثلة للدعاة، فهو لا يُكِنّ غيظًا في قلبه يدفعه إلى الرغبة في التشفي، ولكنه بمنتهى سلامة الصدر، وبمنتهى التجرد، وبمنتهى الصدق يسعى لهدايته لرب العالمين، كان هذا هدفًا أصيلاً من أهداف زيارته له .
- ومن أهداف الزيارة أيضًا أن يتألف قلوب قومه؛ فعبد الله بن أُبيّ زعيم الخزرج، وأتباعه كثير وأحبابه، ومن يستمعون لرأيه لا شك أنهم قد يتأثرون إيجابيًّا بودِّ الرسول ورفقه، وقد حدث ذلك فعلاً.
- ومن أهداف الزيارة أيضًا أن يرفع من قيمة ابن عبد الله بن أُبي بن سلول، وهو عبد الله بن عبد الله بن أُبي بن سلول، وهو من سادات وفضلاء الصحابة، وممن أثبتوا إخلاصهم، وتجردهم لله ، وممن ساهموا بشكل إيجابي في نصرة الإسلام، وفي خدمة الدولة الإسلامية، وكان الرسول لا يريد له أن يُسبّ بأبيه، أو يُعير بتاريخ النفاق الأسود لوالده، فأراد أن يقوم بهذه الزيارات؛ لعل ذلك يخفف من حدة الأزمة عند الصحابي الجليل عبد الله بن عبد الله بن أُبي بن سلول.
والحق أن هذا منتهى اللطف من الرسول ، ومنتهى الرقة والعطف؛ لأن موقف عبد الله بن عبد الله بن أُبي بن سلول صعبٌ شديد الصعوبة، وضَعْ نفسك مكانه، وهو يجلس في مجالس الصحابة، فيكون الحديث كثيرًا عن المشاكل والأزمات التي سببها أبوه، وهو لا يستطيع أن يفعل معه شيئًا، بل عليه أن يبرّه ويحسن إليه. الحق أنه موقف صعب، وكانت زيارات الرسول المتكررة لعبد الله بن أُبي من أهم الأشياء التي خففت على عبد الله بن عبد الله بن أُبي من أزماته.
ثم كان اليوم الأخير في حياة عبد الله بن أُبي بن سلول، ودخل عليه الرسول وهو حزين لاقتراب أجل عبد الله بن أُبي، وهو ما زال على النفاق، فقال له وهو متحسر: "قَدْ نَهَيْتُكَ عَنْ حُبِّ يَهُودَ".
فقال عبد الله بن أُبي في سوء أدب واضح، وفي عناد إلى آخر لحظة: قد أبغضهم أسعد بن زرارة، فما نفعه؟ أي أن بغضأسعد بن زرارة لليهود لم يمنع أسعد بن زرارة من الموت. وكان أسعد قد مات بعد الهجرة النبوية بأربعة أشهر فقط، وكان يكره اليهود جدًّا لمعاداتهم لرسول الله . وهذا تعليق غبي من عبد الله بن أُبي بن سلول.
وهو ما أسمِّيه بغباء النفاق، وسببه طمس البصيرة، فمن ذا الذي قال: إن حب قوم أو بغضهم يورث خلودًا في الدنيا؟! فجميع البشر، سواء كانوا مؤمنين أو منافقين أو كفارًا، يدركون أن الموت متحقق لكل البشر، وأنه لم يكن هناك -ولن يكون- خالدٌ على الأرض، ولا حتى الأنبياء {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء: 34].
فكان ردّ عبد الله بن أُبي بن سلول يحمل غباءً، إضافة إلى ما يحمله من كفر وغلظة وعناد. ثم إن عبد الله بن أُبي بن سلول ترك ذلك العناد، وحاول أن يكون واقعيًّا، فقال لرسول الله : يا رسول الله، ليس هذا بحين عتاب، هو الموت! فإن مت فاحضر غسلي، وأعطني قميصك أكفن فيه.
عبد الله بن أُبي يطلب قميص الرسول كفنا له
هذا طلب قد يستعجبه كثير من الناس، فكلنا يعلم نفاق عبد الله بن أُبي، فلماذا يطلب هذه الطلبات من رسول الله ؟!
هذا طلب قد يستعجبه كثير من الناس، فكلنا يعلم نفاق عبد الله بن أُبي، فلماذا يطلب هذه الطلبات من رسول الله ؟!
والحق أن الطلب فعلاً عجيبٌ، ولا ندري على وجه اليقين ما الذي كان يدور بخَلَدِ عبد الله بن أُبي بن سلول؟
أتراه أدرك فجأة حقيقة الأمر؛ فأراد أن يتوب عن حياته السابقة؟!
هذا احتمال بعيد! بل لعله غير موجود أصلاً؛ لأن الله أنزل آيات شديدة في حقه، وحق المنافقين بعد موته، فهذه دلالة على الكفر حتى في لحظات موته الأخيرة، أم تراه مع نفاقه يطمع في فرصة نجاة من النار، فأراد أن يأخذ قميص رسول الله ؛ لعله يخفف عنه أو يشفع له؟
أم تراه ما زال مستمرًّا في نفاقه، فيظهر تقربه من الرسول مع إبطانه للكراهية الشديدة له؟ الله أعلم بحاله.
لكن ردّ فعل رسول الله كان رقيقًا للغاية، فأعطاه قميصه الأعلى، وكان عليه قميصان، فقال ابن أُبي: أعطني قميصك الذي يلي جلدك، وصلِّ عليَّ، واستغفر لي.
فعاد إلى بيته، ونزع ثوبه الذي يلي جلده، وأعطاه لعبد الله بن عبد الله بن أُبي ليستعمله ككفن لأبيه.
ولنا مع القميص وقفة
فلماذا أعطى رسول الله قميصه لهذا المنافق؟!
فلماذا أعطى رسول الله قميصه لهذا المنافق؟!
كما قلنا قبل ذلك، فهو يُعلي من قدر ومكانة ابنه عبد الله بن عبد الله بن أُبي بن سلول، وأبوه الذي طلب القميص بنفسه، وكان لا يرد سائلاً قَطُّ. كما أنه كان يتألف قلوب قومه، بل إنه قال في رواية: "إِنَّ قَمِيصِي لاَ يُغْنِي عَنْهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَإِنِّي لأَرْجُو أَنْ يُسْلِمَ بِفِعْلِي هَذَا أَلْفَ رَجُلٍ مِنْ قَوْمِهِ".
وقد ذكر ابن إسحاق والقرطبي أن كثيرًا من جماعة عبد الله بن أُبي بن سلول قد أسلموا وحسن إسلامهم بسبب هذه الفعلة.
وفوق ذلك، فإن الرسول كان يكافئ عبد الله بن أُبي بن سلول على جميل صنعه في عم رسول الله العباس في موقف مشابه، والقصة في البخاري، وفيها أن العباس عندما أتي به أسيرًا في بدر، لم يكن عليه ثوب سليم، فأرادوا أن يأتوا له بثوب، وكان رجلاً طويلاً، فلم يجدوا له إلا ثوب عبد الله بن أُبي بن سلول، فجاء به، وأعطاه لرسول الله ، فأراد أن يرد له ثوبًا بثوبه الذي أعطاه لعمه؛ لكي يكافئه على جميله السابق.
ولهذه الأسباب أعطى رسول الله ثوبه لعبد الله بن عبد الله بن أُبي بن سلول ليكفن فيه أباه، غير أن عبد الله لم يكتفِ بذلك، إنما قال لرسول الله : يا رسول الله، وصلِّ عليه، واستغفر له.
فلم يتردد رسول الله ، وقام من فوره ليصلي على رأس المنافقين عبد الله بن أُبي بن سلول، ولم تكن آية: {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 84] قد نزلت بعدُ، وإن كانت الآية: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 80]، كانت قد نزلت.
فلما قام الرسول تعلق به عمر بن الخطاب ، وأمسك بثوبه وقال له: يا رسول الله، تصلي عليه، وقد نهاك ربك أن تصلي عليه؟!
وهذا اجتهاد موفَّق من عمر بن الخطاب ، لأنه -كما ذكرنا- لم تكن آية النهي عن الصلاة قد نزلت بعدُ، ولكن الذي نزل كان آية النهي عن الاستغفار، ولقد حمل عُمر معنى الصلاة على أنها استغفار، وإنها لكذلك؛ لأن الصلاة من الله رحمة، ومن النبي استغفار، ومن المؤمنين دعاء، لكن الرسول كان له فقه آخر للآية، فقد فقه الآية في إطار رحمته المعروفة، وفي ضوء حبِّه لنجاة أهل الأرض جميعًا من النار.
قال في عطف شديد: "إِنَّمَا خَيَّرَنِي اللَّهُ، فَقَالَ: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 80]. ثم قال : وَسَأَزِيدُهُ عَلَى سَبْعِينَ".
أي سأحاول قدر المستطاع أن أسأل الله له المغفرة، مع أن معنى الآية الواضح أنه ليس مقصودًا فيها عدد السبعين بالذات، إنما ذكر العدد لضرب المثل للكثرة، أي مهما استغفرت لهم، فلن يغفر الله لهم، فلن يجدي أيضًا استغفار ثمانين، أو تسعين، أو مائة، لكن الرسول أخذ بظاهر الآية؛ لأن في ذلك موافقة لجانب الرحمة والشفقة الذي يتصف به ، لكن ذلك لم يقنع عمر بن الخطاب فقال: إنه منافق.
أي ماذا يجدي الاستغفار لرجل يبطن الكفر ويظهر الإسلام؟ لكن رسول الله أصر على رأيه، وصلى عليه بالفعل رحمة به، ورحمة بابنه وتأليفًا لقلوب قومه.
عند ذلك نزل قول الله ، موافقًا لرأي عمر ، وناهيًا رسوله الكريم عن أن يفعل ذلك ثانية، فقال الله : {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 84].
فأثبت الله لهم الكفر، ونهى عن الصلاة عليهم، وأصبح هذا الحكم عامًّا في المنافقين المعلومين عن طريق الوحي بأنهم من المنافقين، ولا يجري بالطبع هذا الحكم على بقية المسلمين الذين يشك في إسلامهم ما دام ظاهرهم الإسلام، ولم يكن في أمرهم وحي، لذلك كان عمر بن الخطاب يصلي على كل المسلمين، ويصلي حتى على من شك أنه منافق، إلا أن يرى حُذيفة بن اليمان لا يصلي على واحد منهم، فيعلم أن رسول الله قد أخبره أن هذا الرجل منافق كافر، وكان رسول الله قد أخبر حذيفة بن اليمان بأسماء كل المنافقين الذين لم يتوبوا وظلوا على نفاقهم.
انحسار حركة النفاق بالمدينة المنورة
بموت عبد الله بن أُبي بن سلول انحسرت جدًّا حركة النفاق في المدينة المنورة، وكُسرت إلى حد كبير شوكتهم، ولم نجد لهم حضورًا يذكر في العام العاشر من الهجرة، وإن كان استمرار وجودهم مؤكدًا؛ لأنه -كما ذكرنا قبل ذلك- لا يختفي المنافقون أبدًا من أي مجتمع مسلم، ولكن تتفاوت أعدادهم وقدراتهم، وتأثيرهم بحسب مستوى التربية في المجتمع، وبحسب القوة التي وصلت إليها الدولة الإسلامية.
بموت عبد الله بن أُبي بن سلول انحسرت جدًّا حركة النفاق في المدينة المنورة، وكُسرت إلى حد كبير شوكتهم، ولم نجد لهم حضورًا يذكر في العام العاشر من الهجرة، وإن كان استمرار وجودهم مؤكدًا؛ لأنه -كما ذكرنا قبل ذلك- لا يختفي المنافقون أبدًا من أي مجتمع مسلم، ولكن تتفاوت أعدادهم وقدراتهم، وتأثيرهم بحسب مستوى التربية في المجتمع، وبحسب القوة التي وصلت إليها الدولة الإسلامية.
من آثار تبوك
من الآثار العظيمة أيضًا لغزوة تبوك أن العرب جميعًا علمت أنها ليست لها طاقة بحرب المسلمين، فها هي قريش قد سلّمت وأسلمت، وفتحت أبواب مكة لرسول الله ، وها هي كذلك هوازن قد دخلت في الإسلام، وها هو رسول الله يُخرِج جيشًا قوامه ثلاثون ألف مقاتل لمواجهة أعتى قوة في الأرض، وهي الدولة الرومانية، للمرة الثانية في غضون سنة ونصف، وهذا ما لا يتخيله العرب أصلاً في أحلامهم، فضلاً أن يكون واقعًا يرونه رأي العين.
من الآثار العظيمة أيضًا لغزوة تبوك أن العرب جميعًا علمت أنها ليست لها طاقة بحرب المسلمين، فها هي قريش قد سلّمت وأسلمت، وفتحت أبواب مكة لرسول الله ، وها هي كذلك هوازن قد دخلت في الإسلام، وها هو رسول الله يُخرِج جيشًا قوامه ثلاثون ألف مقاتل لمواجهة أعتى قوة في الأرض، وهي الدولة الرومانية، للمرة الثانية في غضون سنة ونصف، وهذا ما لا يتخيله العرب أصلاً في أحلامهم، فضلاً أن يكون واقعًا يرونه رأي العين.
ولذلك؛ فبعد عودة الرسول من تبوك أخذت القبائل العربية قرارًا شبه جماعي بالقدوم إلى المدينة المنورة للتواصل مع رسول الله ، ومن هذه القبائل من جاء يُعلن الإسلام مقتنعًا به، ومحبًّا له، ومنها من جاء مسلمًا لكونه يرهب الدولة الإسلامية، أو يرجو وُدَّها، ومنها من جاء ليفاوض ويطلب لنفسه شيئًا، ومنها من جاء ليعقد عهدًا ويظل على دينه، وهكذا جاء الجميع، ولم يستطع منهم أحدًا أن يتجاهل القوة الإسلامية الجديدة.
وقد بدأت هذه الوفود الكثيرة في التوافد على المدينة المنورة في أواخر العام التاسع من الهجرة، وأثناء العام العاشر أيضًا، وعُرف العام التاسع الهجري بعام الوفود؛ لكثرة الوفود التي أتت فيه، وكان عددها على الأقل ستين وفدًا، ووصل في بعض التقديرات إلى أكثر من مائة وفدٍ.
ولن نستطيع أن نقف على تفاصيل كل مقابلة لهذه الوفود مع رسول الله ، مع ما فيها من فوائد جمة، وعظات لا تقدر بثمن، وتحتاج إلى تفريغ جهد خاص، ودراسات متأنية، لكني أقف على بعض الوفود فقط، والتي كان لها دلالات خاصة جدًّا، وتطبيقات مهمَّة في فترة السيرة النبوية المتبقية، بل وبعد وفاة الرسول .