وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين

     .. سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر". **** وعن أبي هريرة و أبي سعيد رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «إن الله اصطفى من الكلام أربعا: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر *** قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بخ بخ لخمس ما أثقلَهن في الميزان: لا إله إلا الله، وسبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، والولد الصالح يُتوفَّى للمرء المسلم فيحتسبه ***

ad

الخميس

بعث الرجيع ومأساة بئر معونة

تحدثنا عن غزوة أُحد والآثار الوخيمة لهذه الهزيمة، ورأينا كيف عالج النبي  آثار هذه الهزيمة، كما رأينا الخروج إلى حمراء الأسد لمطاردة المشركين، وردِّ الهيبة إلى المسلمين، وفرار أبي سفيان إلى مكة.
وبعد الانتهاء من غزوة أُحد حدد أبو سفيان اللقاء القادم بين المسلمين والمشركين في بدر من العام القادم، أي في شوال 4هـ حتى تمحو قريش ما حدث في بدر الكبرى في شهر رمضان من السنة الثانية من الهجرة، ووافق المسلمون على المكان والزمان المحددين.
وبعد حمراء الأسد رجع الرسول  إلى المدينة، ولكن وَقْع معركة أُحد كان له توابع ليست في صالح المسلمين، وكانت الفترة التي أعقبت غزوة أُحد من أصعب فترات السيرة النبوية، فلا شك أن موقعة أُحد قد هزَّت سمعة المسلمين في الجزيرة العربية كلها، وبدأت القبائل العربية المحيطة بالمدينة تتربص بالمسلمين الدوائر.

القوى المعادية للإسلام بعد أُحد

رأينا بعد بدر خضوعَ أماكنَ كبيرةٍ في الجزيرة العربية لسلطة المسلمين، مع أن هذه القبائل ما زالت على الشرك، وكان هذا نتيجة انتصار المسلمين على قريش ذات المكانة الكبيرة، سواء من الناحية العسكرية أو الدينية.
أما بعد غزوة أُحد وهذه الهزيمة القاسية أمام قريش، فقد أصيب المسلمون بالضعف، وتجرَّأَ الأعداء عليهم، وأحاطت بهم بعض النكبات، التي راح ضحيتها بعض صحابة رسول الله ، وأريقت دماؤهم الزكية؛ نتيجة تجرُّؤ بعض القبائل على أصحاب رسول الله . فتعالَوْا ننظر إلى أعداء الأمة الإسلامية بعد موقعة أُحد، فسوف نرى أنهم أربع قوى:

الأولى: قريش

هدأت قريش لأنها قد انتصرت في أُحد، ولكنها تتربص بالمسلمين الدوائر؛ لأن المسلمين يسيطرون على طرق التجارة، فهم يهددون قريشًا، والرسول  ما زال حيًّا، وأبو بكر ما زال حيًّا، وعمر ما زال حيًّا، وهؤلاء يستطيعون أن يغيِّروا الجزيرة العربية في أي وقت، وهم الذين سأل عنهم أبو سفيان، فقريش قد هدأت، ولكنه الهدوء الذي يسبق العاصفة.

الثانية: المنافقون

أما المنافقون في داخل المدينة المنورة فبَعْد مصيبة أُحد نَجَم[1] النفاقُ وزاد في المدينة بعد عودة الجيش الإسلامي مهزومًا من أُحد، فالذين كانوا يبطنون الكفر أصبحوا يُظهِرون عداءهم للإسلام. ونحن لا ننسى رجوع عبد الله بن أبي بن سلول بثلث الجيش من أُحد، فهم شوكة في ظهر المسلمين، خاصةً أنهم يعيشون في داخل المدينة المنورة.

الثالثة: اليهود

أما اليهود فقد كان النبي  يعاملهم بحذر؛ لأنه يعلم طبيعة هؤلاء اليهود، وقد رأينا بني قينقاع وكيف أخرجهم رسول الله من المدينة المنورة، أما بنو النضير وبنو قريظة فلا يزالون بداخل المدينة المنورة، وهم يشكلون خطرًا على المسلمين؛ لأنهم مشهورون بالغدر. ولا ننسى كعب بن الأشرف، وتأليبه لقريش على المسلمين وهو من بني النضير.

الرابعة: الأعراب

أما قبائل الأعراب حول المدينة المنورة، فقد بدأت في الكيد للإسلام والمسلمين؛ لأنها قوية وتعيش على السلب والنهب، ووجود الرسول  في المدينة المنورة يمنع هؤلاء الأعراب من السلب والنهب.
فلا شك أن كل هذه الطوائف بعد أُحد سوف تعمل على هدم الدولة الإسلامية في المدينة المنورة.

الأزمات التي واجهها المسلمون بعد أحد

لقد واجه المسلمون أزمات عاتية بعد أُحد، كادت أن تأتي على ذلك الصرح الذي أقامه رسول الله . فسبحان الله! الأيام دول، فقد كان للمسلمين بعد بدر السيطرة الكاملة والسيادة، أما بعد غزوة أُحد فالسيطرة لقريش وأعوانهم، وصدق قوله تعالى: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ[آل عمران: 140]، فإن تداول القوة من السنن الكونية.

أولا: دعوة بني أسد لحرب المسلمين

فكان فيهم طليحة بن خويلد الأسدي، وأخذوا يتجمعون لحرب المسلمين، فبعث رسول الله  سرية بقيادة أبي سلمة، ونجحت في تشتيت تجمُّع بني أسد في المحرم 4هـ.

ثانيا: تجمع هُذيل

فقد أخذ يجمِّع قبائل هذيل لحرب المسلمين، وكان هذا الرجل من أشرس المقاتلين العرب وأشدهم؛ فبعث رسول الله إلى الصحابي الجليل عبد الله بن أُنَيْس لكي يقتل هذا الرجل. يقول عبد الله بن أنيس: دعاني رسول الله  فقال: "إِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّ خَالِدَ بْنَ سُفْيَانَ بْنِ نُبَيْحٍ الْهُذَلِيَّ يَجْمَعُ لِيَ النَّاسَ لِيَغْزُونِي، وَهُوَ بِعُرَنَةَ، فَأْتِهِ فَاقْتُلْهُ". قال: قلت: يا رسول الله، انعتْهُ لي حتى أعرفه. قال: "إِذَا رَأَيْتَهُ وَجَدْتَ لَهُ قُشَعْرِيرَةَ". قال: فخرجت متوشحًا سيفي حتى وقعت عليه وهو بعرنة مع ظعن يرتاد لهن منزلاً، وحين كان وقت العصر، فلما رأيته وجدتُ ما وصف لي رسول الله  من القشعريرة، فأقبلت نحوه وخشيت أن يكون بيني وبينه مُجَاولة[2] تشغلني عن الصلاة، فصليت وأنا أمشي نحوه أومئ برأسي للركوع والسجود.
أقرَّ الرسول  ما فعل عبد الله بن أنيس، وشُرِعت صلاة الطالب والمطلوب بالطريقة التي فعلها عبد الله بن أنيس . يقول عبد الله بن أنيس : فلما انتهيت إليه قال: مَنِ الرجل؟
قلت: رجل من العرب سمع بك وبجمعك لهذا الرجل فجاءك لذلك.
قال: أَجَلْ، أنا في ذلك.
قال: فمشيت معه شيئًا حتى إذا أمكنني الله منه حملت عليه السيف حتى قتلته، ثم خرجت وتركت ظعائنه مُنْكَبَّات عليه؛ فلما قدمت على رسول الله  فرآني قال: "أَفْلَحَ الْوَجْهُ". قال: قلت: قتلته يا رسول الله. قال: "صَدَقْتَ". قال: ثم قام معي رسول الله ، فدخل في بيته، فأعطاني عصًا فقال: "أمْسِكْ هَذِهِ عِنْدَكَ يَا عَبْدَ اللَّهَ بْنَ أُنَيْسٍ". قال: فخرجت بها على الناس، فقالوا: ما هذه العصا؟ قال: قلت: أعطانيها رسول الله ، وأمرني أن أمسكها. قالوا: أوَلا ترجع إلى رسول الله  فتسأله عن ذلك؟ قال: فرجعتُ إلى رسول الله ، فقلت: يا رسول الله، لم أعطيتني هذه العصا؟ قال: "آيَةٌ بَيْنِي وَبَيْنِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِنَّ أَقَلَّ النَّاسِ الْمُتَخَصِّرُونَ[3] يَوْمَئِذٍ". قال: فقَرَنَها عبد الله بسيفه، فلم تزل معه حتى إذا مات أمر بها فضُمَّتْ في كفنه ثم دُفِنا جميعًا[4].
هاتان أزمتان مر بهما المسلمون، وقد نجح رسول الله  في التخطيط للقضاء عليهما، وهذا من ذكاء الرسول ، وخرج المسلمون من هاتين الأزمتين بسلام، أما الأزمتان القادمتان فلن يسلم منهما المسلمون؛ وهما بعث الرجيع، وبئر معونة.

ثالثا: بعث الرجيع

كان ذلك في صفر من السنة الرابعة من الهجرة، وسبب هذا البعث أن بني لحيان من هُذيل مشوا إلى عَضَلٍ والقَارَةِ - وهما قبيلتان من بني الهَوْن - على أن يكلموا رسول الله  أن يخرج إليهم نفرًا من أصحابه؛ فقدم نفر منهم فقالوا: "يا رسول الله، إن فينا إسلامًا فابعث معنا نفرًا من أصحابك؛ يفقهوننا في الدين، ويقرئوننا القرآن، ويعلموننا شرائع الإسلام". فلما جاء هؤلاء النفر يطلبون من يفقههم، بعث الرسول  معهم عشرة من أصحابه، وأَمَّر عليهم عاصم بن ثابت .
خرج هؤلاء حتى أتوا الرجيع فغدروا بهم، واستصرخوا عليهم هذيلاً ليعينوهم على قتلهم، فلم يَرُع القوم وهم في رحالهم إلا الرجال بأيديهم السيوف، فأخذ عاصم ومن معه أسيافهم ليقاتلوا القوم، فقالوا: "إنا والله لا نريد قتلكم، ولكم عهد الله وميثاقه أن لا نقتلكم". وقالوا ذلك لأنهم يريدون أن يُسلِموهم لكفار قريش، ويُصيبوا بذلك مالاً؛ لعلمهم أنه لا شيء أحب إلى قريش من أن يأتوا بأحدٍ من أصحاب محمد  يمثِّلون به، ويقتلونه بمن قُتل منهم ببدر وأُحد، فأبوا أن يقبلوا منهم.
فرفض عاصم بن ثابت ذلك، وقال: "والله لا نقبل من مشرك عهدًا". وقاتلوا حتى قتلوا، فقتل سبعة من صحابة رسول الله ؛ منهم عاصم بن ثابت ، وأما زيد بن الدَّثِنَة وخُبَيب بن عديّ وعبد الله بن طارق فلانُوا ورقُّوا ورغبوا في الحياة فأعطوا بأيديهم فأسروهم، ثم خرجوا بهم إلى مكة ليبيعوهم بها، حتى إذا كانوا بالظَّهْران انتزع عبد الله بن طارق يده من القران، ثم أخذ سيفه واستأخر عنه القوم، فرموه بالحجارة حتى قتلوه فقبره بالظهران. وأما خبيب بن عدي وزيد بن الدثنة فقدموا بهما مكة فباعوهما، فابتاع خبيبًا حُجَيْرُ بن أبي إهاب التميمي حليف بني نوفل لعقبة بن الحارث بن عامر بن نوفل، وكان حجير أخًا للحارث بن عامر لأمِّه ليقتله بأبيه.
وأما زيد بن الدثنة فابتاعه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه أمية بن خلف، وكان شراؤهما في ذي القعدة، فحبسوهما حتى خرجت الأشهر الحرم فقتلوا زيدًا، وأما خبيب فمكث أسيرًا حتى خرجت الأشهر الحرم ثم أجمعوا على قتله، وكانوا في أول الأمر أساءوا إليه في حبسه، فقال لهم: "ما يصنع القوم الكرام هكذا بأسيرهم". فأحسنوا إليه بعد ذلك وجعلوه عند امرأة تحرسه وهي ماوِيَّة مولاة حجير، وقد قالت ماوية: "كان خبيب يتهجد بالقرآن، فإذا سمعه النساء بكين ورققن عليه". فقلت له: "هل لك من حاجة؟" قال: "لا، إلا أن تسقيني العذب، ولا تطعميني ما ذُبح على النصب، وتُخبِريني إذا أرادوا قتلي". فلما أرادوا ذلك أخبرته، فوالله ما اكترث بذلك.
ولما خرجوا بخبيب من الحرم ليقتلوه، قال: دعوني أُصلِّي ركعتين. فتركوه فصلى سجدتين، فجَرَتْ سُنَّة لمن قُتل صَبْرًا أن يصلي ركعتين. ثم قال خبيب: لولا أن تحسبوا أن ما بي جزعٌ لزدتُ. ثم قال: اللهم أحصهم عددًا، واقتلهم بددًا، ولا تبقِ منهم أحدًا، ثم أنشأ يقول:
ولستُ أبالي حين أقتـل مسلمًا ... على أي جنبٍ كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشـأ ... يُبارك على أوصـال شِلْوٍ مُمَـزَّعِ[5]
ثم قام إليه أبو سِرْوعة عُقبة بن الحارث فقتله[6].
وعن عروة بن الزبير  قال: "لما أرادوا قتل خبيب ووضعوا فيه السلاح والرماح والحراب، وهو مصلوب نادوه وناشدوه، أتحب أن محمدًا مكانك؟ قال: لا والله، ما أحب أن يفديني بشوكة يشاكها في قدمه"[7].
إنه الحب الكبير لرسول الله  الذي كان يملأ قلوب الصحابة رضوان الله عليهم، فهو لا يريد أن يكون مُعافًى في أهله وولده ورسول الله  يشاكُ بشوكة.
أما زيد بن الدثنة فقالوا له أيضًا عند قتله فأجابهم بمثل ذلك، فقال أبو سفيان: "ما رأيت من الناس أحدًا يحب أحدًا كحُبِّ أصحاب محمد محمدًا". وقد قتلَ زيدًا نسطاسُ[8].
وقد كانت هذيل حين قُتل عاصم بن ثابت قد أرادوا رأسه ليبيعوه إلى سُلافة بنت سعد بن شهيد، وكانت قد نذرت حين أصاب ابنيها يوم أُحد: لئن قدرت على رأس عاصم لتشربَنَّ في قِحْفِهِ الخمر، فمنعته الدَّبْر[9]، فلما حالت بينهم وبينه قالوا: دعوه حتى يمسي فتذهب عنه، فنأخذه. فبعث الله سيلاً، ولم يكن هناك سحاب في السماء كما يقول الرواة، فاحتمل عاصمًا إلى حيث لا يعلم أحد، وكان عاصم قد أعطى الله عهدًا أن لا يمسه مشركٌ أبدًا، ولا يمس مشركًا أبدًا!!
فكان عمر بن الخطاب  يقول حين بلغه أن الدَّبْر منعته: "يحفظ الله العبد المؤمن! كان عاصم نذر أن لا يمسه مشركٌ، ولا يمس مشركًا أبدًا في حياته؛ فمنعه الله بعد وفاته كما امْتَنَع منه في حياته"[10].
عشرة من خيار الصحابة يموتون في وقت واحد، إنه لموقف صعب! وفي الوقت نفسه الذي حدث فيه بعث الرجيع حدث حادث أليم على المسلمين، وهو حادث بئر معونة.

رابعا: مأساة بئر معونة

قدم على رسول الله  في شهر صفر من العام الرابع من الهجرة، رجلٌ من بني عامر وهي من القبائل القوية، وهذا الرجل هو مُلاعِب الأسِنَّة أبو براء عامر بن مالك، وقدَّم هديَّةً إلى رسول الله ، فدعاه الرسول إلى الإسلام فلم يُسلِم، وقال: يا محمد، لو بعثت رجالاً من أصحابك إلى أهل نجد يدعونهم إلى أمرك، فإني أرجو أن يستجيبوا لك. فقال: "إِنِّي أَخَافُ عَلَيْهِمْ أَهْلَ نَجْدٍ". فقال أبو براء: أنا جارٌ لهم.
فبعث رسول الله  المنذر بن عمرو من بني ساعدة في سبعين من خيرة الصحابة، وكانوا يُعرفون بالقرَّاء، يقرءون القرآن ويتدارسونه ليل نهار، منهم حرام بن ملحان، وعامر بن فهيرة، فنزلوا بئر معونة بين أرض بني عامر، وحَرَّة بني سُليم، وبعثوا حَرَام بن مِلْحان برسالة من الرسول  إلى عامر بن الطفيل يدعوه إلى الإسلام. وعامر بن الطفيل هو ابن أخي عامر بن مالك (ملاعب الأسنة) الذي جاء إلى رسول الله  وطلب منه أن يبعث من الصحابة من يعلِّم قومه الإسلام، وكان عامر بن الطفيل رجلاً شريرًا غادرًا، فقتل الصحابي الجليل حرام بن ملحان ؛ فقد أوصى أحد حرَّاسه أن يأتي من خلفه ويطعنه في ظهره، والرسل لا تُقتل، وجاء الحارس من خلفه وطعنه بحربة كبيرة من خلفه فخرجت من بطنه، فلما رأى حرام  ذلك، أخذ الدم الذي يسيل من جسده ويدهن به وجهه وهو يقول: "فزتُ وربِّ الكعبة". وكان الذي قتل حرام  هو جبار بن سلمى، فقد أخذ يسأل عن قول الصحابي: "فزتُ ورب الكعبة"، فقال: ما فاز، أوَلستُ قد قتلته؟ فقالوا له: إنها الشهادة عند المسلمين. فذهب إلى المدينة المنورة ودخل في الإسلام، وكان ذلك سببًا في إسلامه[11].
فعل عامر بن الطفيل ذلك؛ لأن بينه وبين رسول الله  موقفًا قديمًا؛ فقد وفد على رسول الله ، وقال: "إني أعرض عليك ثلاثة أمور: أن يكون لك أهل السهل ولي أهل المدر، أو أن أكون خليفتك من بعدك، أو أن أغزوك بأهل غطفان"[12]. فرفض الرسول  هذه الأمور التي هي من أمور الجاهلية.
فلذلك لم ينظر في رسالة رسول الله  التي يحملها حرام بن ملحان، واستعدى عليهم بني عامر، فأبوا لجوار أبي براء عامر بن مالك إياهم، فاستعدى بني سُليم فنهضت منهم عُصيَّة ورِعل وذَكوان، وقتلوهم عن آخرهم، إلا كعب بن زيد فقد أصيب بجروحٍ وظنوه قد قتل، ولكنه عاش حتى شهد الخندق في العام الخامس، ولقي ربه شهيدًا. وتزامن مع هذه الوقعة مرور المنذر بن عقبة وعمرو بن أمية الضمري، فنظرا إلى الطير تحوم على العسكر، فأسرعا إلى أصحابهما فوجدوهم في مضاجعهم، فأما المنذر بن عقبة فقاتل حتى قتل، وأما عمرو بن أمية فقد أسره عامر بن الطفيل، ثم أعتقه لرقبة كانت عن أمه، وذلك لعشرٍ بقين من صفر، وكانت مع الرجيع في شهر واحد. وفي الطريق لقي عمرو بن أمية رجلين من بني كلاب، وهم فرع من بني عامر، فنزلا معه في ظل شجرة، فلما ناما فتك بهما عمرو بن أمية، وكان معهما عهدٌ من النبي  لم يعلم به عمرو، وقدم على النبي  فأخبره بذلك، فقال: "لَقَدْ قَتَلْتَ قَتِيلَيْنَ لَأَدِيَنَّهُمَا"[13].
هذا هو السمو الأخلاقي من رسول الله ، فقد جاء خبر هذين القتيلين مع خبر استشهاد سبعين من صحابة رسول الله  في بئر معونة، ومع ذلك قرر رسول الله  أن يُعطِي الدية لهذين القتيلين اللذين قُتلا عن طريق الخطأ.
إنها عظمة الإسلام الذي جاء لينشر دعوة العدل والحق في ربوع العالم كله!!
لقد كانت مأساة بئر معونة قاسية على المسلمين؛ فهم من القُرَّاء ومن الدعاة ومن العلماء، وظل الرسول  يقنت شهرًا كاملاً يدعو على عامر ورعل وذكوان في كل صلواته حتى الصلوات السرية. ومصيبة بئر معونة حدثت مع مأساة الرجيع في شهر واحد، وهو شهر صفر عام 4هـ؛ فقد استشهد سبعون من خيار الصحابة في بئر معونة، وعشرة في بعث الرجيع، وكان قبلهم سبعون في أُحد، ففي عام واحد يفقد المسلمون مائة وخمسين شهيدًا، فهذا عدد كبير ونحن نتحدث عن الأمة في بداية نشأتها.
د. راغب السرجاني

[1] نجم: ظهر وطلع.
[2] جاوله: طارده وصاوله.
[3] المتخصرون: المتكئون على المخاصر، جمع مخصرة، وهي ما يمسكه الإنسان بيده من عصًا ونحوها.
[4] ابن كثير: السيرة النبوية، تحقيق مصطفى عبد الواحد، دار المعرفة، بيروت، 1971م، 3/267، 268.
[5] "شلو ممزع": جسد مقطع.
[6] ابن سيد الناس: عيون الأثر، مؤسسة عز الدين للطباعة والنشر، بيروت، 1986م، 2/11، 12.
[7] ابن كثير: السيرة النبوية 3/131.
[8] ابن كثير: السيرة النبوية 3/128، 129.
[9] الدبر: الزَّنابير والنَّحل.

المشاركات الشائعة