رسول الله يتأهّب للمعركة
وصلت أنباء الاستعدادات القرشية للمدينة المنورة، فكان أول ما فعله رسول الله مع أصحابه الشورى، وانبثق عنها عدة أمور:
أولاً: تأمين المدينة المنورة، فكانت هناك فرقة لحماية رسول الله ، فهو بلا شك مستهدف، وربما تحدث أيّ جريمة اغتيال، وهذا سيؤثر حتمًا على المدينة المنورة، وكان على رأس هذه الفرقة التي تحمي الرسول كبار الأوس والخزرج: سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، وأسيد بن حضير، وكانت هذه فرقة من أقوى الفرق الإسلامية، وبدأت مهمتها بإحاطة بيت الرسول والمسجد النبوي، والسير معه في كل وقت وفي كل مكان.
ثانيًا: عمل فرق لحماية مداخل المدينة المنورة، حتى لا يباغت المسلمون ليلاً أو نهارًا.
ثالثًا: عمل دوريات مراقبة حول المدينة المنورة؛ لاستطلاع مكان وخطوات وتحركات جيش المشركين.
رابعًا: الجميع في المدينة المنورة، سواء من المهاجرين أو الأنصار (الأوس والخزرج)، كانوا لا يتحركون إلا بالسلاح، وفي أثناء الصلاة أيضًا يكون معهم سلاحهم، وهذا الأمر يوضح صفة في غاية الأهمية من صفات الجيش المنتصر، وهي الإعداد الجيد؛ مخابرات قوية ومتمكنة أتت بالأخبار، حماية قوية للقائد ، حماية قوية للمدينة واستعداد كامل للقتال.
قرار القتال خارج المدينة
بدأ المسلمون في التفكير في الأمر ماذا يصنعون، هل يخرجون لملاقاة الجيش القادم خارج المدينة المنورة، أم ينتظرون قدومه إليهم؟ هل يحددون أرض المعركة أم يتركون ذلك لعدوهم؟
وقبل أن يحددوا موقفهم من هذا الأمر قصَّ رسول الله عليهم رؤيا، وقال لهم : "إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ وَاللَّهِ خَيْرًا؛ رَأَيْتُ بَقَرًا يُذْبَحُ، وَرَأَيْتُ فِي ذُبَابِ سَيْفِي ثُلْمًا، وَرَأَيْتُ أَنِّي أَدْخَلْتُ يَدِي فِي دِرْعٍ حَصِينَةٍ"
فرسول الله رأى ثلاثة أشياء:
1- رأى أن بقرًا يُذبح، وأوَّلَ ذلك أن نفرًا من أصحابه يُقتلون.
2- رأى أن في سيفه كسرًا، فأوَّلَ ذلك بأن رجلاً من أهل بيته يُصاب.
3- رأى أنه أدخل يده في درع حصينة، وأوَّلَ ذلك بالمدينة المنورة، أي أنه يقاتل في داخل المدينة المنورة.
وهو عندما قصَّ للمسلمين هذه الرؤيا لم يقصها على أنها قرار يجب عليهم أن يأخذوا به، ولكنه عرضها عليهم في صورة رأي يستأنسون به، ولأنه لو كان وحيًا ما جاز له أن يستشيرهم فيه، فهو يشير من بعيد إلى أنه يفضل أن يقاتل في داخل المدينة المنورة، وقد صرَّح بعد ذلك بهذا الرأي فقال: "يُقَاتِلُ الْمُسِلْمُونَ عَلَى أَفْوَاهِ الأَزِقَّةِ، وَالنِّسَاءُ مِنْ فَوْقِ الْبُيُوتِ". أي أنهم لو ظلوا في المدينة المنورة سيضطر جيش مكة إلى دخول المدينة، وستكون الحرب حرب شوارع، وهذه الحرب سوف تكون صعبة جدًّا على الجيش المهاجم.
لكنَّ معظم المسلمين وخاصةً من لم يشاركوا في بدر، كانوا في شوق إلى قتال المشركين خارج المدينة المنورة، حتى قال قائلهم: "يا رسول الله، كنا نتمنى هذا اليوم وندعو الله، فقد ساقه إلينا وقرب المسير، اخرج إلى أعدائنا لا يرون أنا جَبُنَّا عنهم". وكان من أشد المتحمسين للخروج حمزة بن عبد المطلب ، وقد قال كلمة عجيبة لرسول الله : "والذي أنزل عليك الكتاب، لا أطعم طعامًا حتى أجالدهم بسيفي خارج المدينة"
وكان معظم الناس على هذا الرأي، ولم يكن على رأي الرسول إلا القليل من الصحابة جميعًا.
وممن كان على رأي الرسول أيضًا زعيم المنافقين عبد الله بن أُبيّ بن سلول، ولم يكن هذا لاقتناعه برأي الرسول ، ولكن ليسهل عليه الفرار في داخل المدينة المنورة، لكن الرسول في نهاية الأمر نزل على رأي الشورى، حتى وإن كان مخالفًا لرأيه، وإن كان يتأوَّل في رؤياه أن نفرًا من أصحابه سوف يقتلون، وأن واحدًا من أهل بيته سيُصاب، وأنه من الأفضل أن يقاتل داخل المدينة، لكنه لما رأى أن ذلك ليس وحيًا من الله I، تنازل عن رأيه لصالح رأي الأغلبية، وقرَّر الخروج من المدينة المنورة لقتال المشركين.
استنفار المدينة للقتال
صلَّى رسول الله بالناس يوم الجمعة ووعظهم وأمرهم بالاجتهاد والجد، وبشرهم بالنصر إن هم صبروا، وإن هم ساروا على نهج الله وعلى نهج نبيه ، وقد فرح الناس بالخروج وتجهّزوا بنشاط، وبعد أن صلَّى الرسول العصر في ذلك اليوم الجمعة 6 من شوال، حشد أهل العوالي وأهل المدينة المنورة، وجمع أصحابه أجمعين، وبدأ هو شخصيًّا يستعدّ للخروج للقتال؛ فأخذ معه أبا بكر وعمر ودخل بيته ليجهّزاه بعُدَّة الحرب، ولبس العدة الكاملة للحرب، فلبس درعين، وحمل سيفه، وقبل أن يخرج من بيته اجتمع الأنصار مع المهاجرين، وقال لهم سعد بن معاذ وأسيد بن حضير: "استكرهتم رسول الله على الخروج، فرُدُّوا الأمر إليه".
إذن، فعموم الصحابة يشعرون أن الأمر على غير رأي الرسول ، ويعلمون أن رأيه هو الأحكم والأعلم والأنسب لأنه رسول الله، فقرروا أن يردوا إليه الأمر مرة ثانية، فلما خرج وهو يرتدي عدة الحرب قالوا له: "يا رسول الله، ما كان لنا أن نخالفك، فاصنع ما شئت، إن أحببت أن تمكث بالمدينة فافعل". لكن الرسول قد أخذ القرار واستعد واستعد معه الناس للخروج، فقال لهم كلمة جميلة: "مَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ إِذَا لَبِسَ لَأْمَتَهُ -درع الحرب- أَنْ يَضَعَهَا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَدُوِّهِ"
وهذا الأمر يوضح لنا أهمية الحسم وعدم التردد، وهي صفة مهمة من صفات الجيش المنتصر.
وكان قد حفَّز الجيش بالجنة في خطبة الجمعة، وكذلك عندما خرج بعد صلاة العصر، وعندما سمع الناس بعد ذلك نداء الجهاد في سبيل الله خرج الجميع للجهاد، حتى خرج حنظلة بن عامر وكان حديث عهد بعرس، ولكنه خرج مباشرة دون تردد، فالناس في أُحُد خرجوا لله رب العالمين، وكان هذا عموم الجيش المسلم، إلا طائفة المنافقين الذين كانوا في داخل جيش المسلمين، وسوف نرى ما كان من أمرهم.
الإعداد القوي لغزوة أحد
بدأ رسول الله يُعِدّ العدة ويصفُّ الصفوف، فجهّز ألف مقاتل، وجعل على كتيبة المهاجرين مصعبَ بن عمير ، وعلى كتيبة الأوس أُسيد بن حضير، وعلى كتيبة الخزرج الحباب بن المنذر، وجهّز الجيش بمائة درع، ولم يكن مع المسلمين في هذه الموقعة أيّ خيول -وهذا في أصح الروايات-؛ وهذا نظرًا لما كان عليه المسلمون من الفقر.
إذن فقد أَعدَّ النبي الجيش بقدر ما يستطيع من قوة، بدايةً من المخابرات السليمة، وحماية المدينة المنورة، وتجهيز العدة، وإعداد الأفراد وإعداد السلاح، وخرج بهذا الإعداد الجيد، وقد ولَّى قيادة كتائب الجيش إلى عمالقة العسكريين الإسلاميين، مثل مصعب بن عمير وأسيد بن حضير والحباب بن المنذر، وغيرهم من قادة الصحابة، ورَدَّ الأطفال الذين لا يستطيعون القتال مثل عبد الله بن عمر -وكان قد رده في غزوة بدر- وردَّ زيد بن أرقم، وزيد بن ثابت، وأبا سعيد الخدري، وأسامة بن زيد أجمعين.
وسَّد الرسول -إذن- الأمر إلى أهله، هذا ما كان أيضًا في بدر، واليوم نراه ينطبق تمامًا على الجيش المشارك في أُحُد.
وكما ردَّ النبيُّ أحد المشركين ومنعه من المشاركة مع المسلمين في بدر، وقال : "لاَ أَسْتَعِينُ بِمُشْرِكٍ"، ردَّ كذلك غير المسلمين ومنعهم من المشاركة في أُحُد، فقد جاءت كتيبةٌ -وكانت حسنة التسليح- للاشتراك مع المسلمين في أُحُد، فسأل عنها الرسول ، فقالوا له: هذه كتيبة من اليهود من حلفاء الخزرج. فقال : "هَلْ أَسْلَمُوا؟" فقالوا: لا. فردَّهم الرسول وقال: "قُولُوا لَهُمْ: فَلْيَرْجِعُوا، فَإِنَّا لاَ نَسْتَعِينُ بِالْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ".
ملمحٌ آخر من ملامح الجيش المنتصر وجدناه في هذا الجيش، وهو الاعتماد على الشباب، وكما نعرف فإن جيش أُحُد هو جيش بدر، مضافًا إليه بعض الناس.
ومما يدل على حرص الشباب على المشاركة في القتال في أُحُد، ما رواه رافع بن خديج عندما لم يجزه النبي ، فَقَالَ ظُهَيْرُ بْنُ رَافِعٍ: يَا رَسُولَ اللّهِ، إنّهُ رَامٍ. وَجَعَلْت أَتَطَاوَلُ وَعَلَيَّ خُفّانِ لِي، فَأَجَازَنِي رَسُولُ اللّهِ ، فَلَمّا أَجَازَنِي قَالَ سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ لِرَبِيبِهِ مُرَيّ بْنِ سِنَانٍ الْحَارِثِيّ -وَهُوَ زَوْجُ أُمِّهِ-: يَا أَبَتِ، أَجَازَ رَسُولُ اللّهِ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ وَرَدّنِي، وَأَنَا أَصْرَعُ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ. فَقَالَ مُرَيّ بْنُ سِنَانٍ الْحَارِثِيّ: يَا رَسُولَ اللّهِ، رَدَدْتَ ابْنِي وَأَجَزْتَ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ، وَابْنِي يَصْرَعُهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ : "تَصَارَعَا". فَصَرَعَ سَمُرَةُ رَافِعًا، فَأَجَازَهُ رَسُولُ اللّهِ .
فكان هذا اختبارًا للقدرات القتالية للمشاركين في غزوة أُحُد.
وكما نرى في جيش أُحُد؛ الإيمان بالله ، وبرسوله الكريم ، وباليوم الآخر، والتحفيز بالجنة، وحب الموت في سبيل الله، والحسم وعدم التردد، والإعداد الجيد، وتوسيد الأمر إلى أهله، وقيمة الشباب، والشورى والأخوة.
فالجيش بهذه الصفات وعلى هذه الهيئة سوف ينتصر، وقد قال لهم ذلك، وأنهم لو استمروا على هذا النهج سوف ينتصرون، وهذه بشرى من رب العالمين لكل من أخذ بهذه المبادئ.
انسحاب المنافقين
خرج الجيش الإسلامي وتوجه في طريق أُحُد، لأنه يعرف أن جيش المشركين يعسكر بالقرب من أُحُد، وحاول الرسول قدر استطاعته التكتم أثناء السير، وسار من وسط المزارع التي تقع حول المدينة المنورة، حتى لا يُكتشف أمره من قِبَل الجيش المشرك، ووصل إلى منطقة أُحُد، ومن بعيدٍ رأى جيش المشركين.
وبينما هم على مسافة قريبة من أُحُد حدث أمر هائل في الجيش المسلم.
خرج عبد الله بن أُبي بن سلول في حركة تمردٍ على المسلمين، وأبدى أنه غير موافق على القتال في هذه المعركة، متعلّلاً بأنه لم يكن من الموافقين على رأي الخروج من المدينة، ورجع هو ومن على شاكلته وكانوا ثلاثمائة، أي ما يقرب من ثلث الجيش.
وناشد عبد الله بن حرام -والد جابر بن عبد الله- المنافقين وهم ينصرفون من أرض المعركة، يقول لهم: "تعالَوْا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا". فقالوا: "لو نعلم أنكم تقاتلون لم نرجع". وحاول معهم كثيرًا لكنهم رفضوا تمامًا، فقال لهم : "أبعدكم الله أعداء الله! فسيغني الله عنكم نبيه"
ونزل بعد ذلك قول الله : {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ} [آل عمران: 167].
ربما يتصور أحد أن هذه خسارة للجيش المسلم، لكن على العكس من ذلك، قال الله يصف حال المنافقين: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [التوبة: 47].
فوجود المنافقين في الصف المسلم خطر كبير، ليس فقط لأنهم سوف يكونون عينًا على المسلمين، أو يُدلِون بآراء فاسدة للجيش المسلم، لكن الأخطر أنهم قد يثيرون بعض الشبهات في داخل الجيش المسلم، والتي تجعل بعض المؤمنين الصادقين يترددون في أمر القتال، وهذا عينُ ما حدث في غزوة أُحُد، فهذه الكلمات التي قالها عبد الله بن أُبيّ في أرض المعركة، أو قبيل دخول أرض المعركة بقليل، قد أثَّرت هذه الكلمات في طائفتين من المسلمين الصادقين المؤمنين: طائفة بني حارثة من الأوس، وطائفة بني سلمة من الخزرج؛ فهاتان الطائفتان فكرت كل منهما جديًّا في أمر الرجوع، لولا أن الله ثبّتهم بصدق إيمانهم، وقد وقف معهم الرسول والصحابة ، وأقنعوهم بالبقاء في أرض المعركة حتى يكملوا اللقاء، وفي حقهم نزل قول الله : {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ وَاللهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}[آل عمران: 122].
جيش الكفار والذي وصل إلى ثلاثة آلاف مقاتل بعُدة جيدة وآلة الحرب.
وكذلك تحدثنا عن الإعداد الجيد للجيش المسلم وأن النبي خرج بألف من رجال المسلمين ولكن انسحب منه قبل أن يدخل أرض المعركة ثلاثمائة من المنافقين فأصبح الجيش سبعمائة من المسلمين.
وأيضا إلى جانب الإعداد الجيد توفرت صفات الجيش المنصور في الجيش المسلم الخارج إلى أحد من إيمان بالله وإيمان برسوله ، ومن إيمان بالله واليوم الآخر وطلب الجنة ورغبة في الموت في سبيل الله ومن أخوة وأمل وشورى ومشاركة القائد لجنده، وغير ذلك من صفات الجيش المنصور التي تحدثنا عنها بالتفصيل عند حديثنا عن غزوة بدر.
آخر خطوات الإعداد لغزوة أحد
ولما دخل النبي أرض أحد أحتل مواقع متميزة في أرض المعركة ووضع فرقة من الرماة على الثغرة الوحيدة الموجودة في أرض المعركة، وأكد عليهم مرارا عدم التخلي عن مواقعهم مهما كانت الظروف.
قال لعبد الله بن جبير قائد الرماة: "انْضَحْ عَنَّا الْخَيْلَ بِالنَّبْلِ لَا يَأْتُونَ مِنْ خَلْفِنَا، إِنْ كَانَتْ لَنَا أَوْ عَلَيْنَا فَاثْبُتْ مَكَانَكَ، لَا نُؤْتَيَنَّ مِنْ قِبَلِكَ".
ثم قال للرماة: "إِنْ رَأَيْتُمُونَا تَخْطَفُنَا الطَّيْرُ فَلَا تَبْرَحُوا مَكَانَكُمْ هَذَا حَتَّى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ، وَإِنْ رَأَيْتُمُونَا هَزَمْنَا الْقَوْمَ وَوَطِئْنَاهُمْ فَلَا تَبْرَحُوا مَكَانَكُمْ هَذَا حَتَّى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ".
فكانت الأوامر في منتهى الوضوح لا تفتح بابا للاجتهاد عند الرماة، كلها تحمل معنى واحدًا، وهو الثبات الثبات فوق جبل الرماة.
بدء القتال في غزوة أحد
وبدأ القتال وكان يوم السبت الموافق السابع من شوال بعد غزوة بدر بعام تقريبا.
وبدأ القتال في منتهى القوة والشراسة وأول ما بدء للقتال كان حول راية الكفار، وكما ذكرنا فراية الكفار كانت مع بني عبد الدار وكان أول من يحملها من بني عبد الدار طلحة بن أبي طلحة العبدري، وكان طلحة من أكبر وأعظم وأقوى فرسان قريش وكان يلقب بكبش الكتيبة وخرج ليطلب القتال وكان أول من طلب القتل من قريش وخرج وهو حامل الراية وعلى جمل وأحجم عنه المسلمون لما رأوا هيئته وقوة بأسه، وتقدم الزبير بن العوام الذي لم يكتف بقتاله بل قفز فوق جمل طلحة بن أبي طلحة وجذبه إلى الأرض وبرك فوقه وقتله، ولما رأى الزبير بن العوام يقتل كبش الكتيبة قال: "أَلَا إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيًّا وَحَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ".
واشتد القتال بين الفريقين وتقدم عثمان بن أبي طلحة أخو طلحة بن أبي طلحة الذي قتله الزبير وطلب القتال وخرج له حمزة وقتله حمزة ثم خرج أخوهم الثالث أبو سعدة فقتله سعد بن أبي وقاص، ثم خرج مسافع بن طلحة بن أبي طلحة، ثم كلاب بن طلحة بن أبي طلحة، ثم الجُلاس بن طلحة بن أبي طلحة، مجموعة كبيرة من بني عبد الدار وكانوا ستة من بيت واحد بيت أبي طلحة، وكانت مأساة بالنسبة لبيت أبي طلحة بن عبد الدار، وبرغم كل ما حدث في بيت أبي طلحة خرج من بني عبد الدار رجل آخر هو أرطأة بن شرحبيل، فقتله علي بن أبي طالب، ثم خرج شريح بن قارظ فقتله غلام أنصاري اسمه قزمان، ثم خرج عمرو بن عبد مناف فقتله أيضا قزمان، فخرج ابن شرحبيل بن هاشم، فقتله أيضا قزمان، وقد قاتل قزمان في ذلك اليوم قتالا شديدا.
وَقُتِل يومئذ عشرة من بني عبد الدار، وكلما قتل واحدًا منهم تسلم الراية رجلًا آخر لأنهم تعاهدوا مع أبي سفيان أن لا يتخلوا أبدًا عن الراية وصدقوا في عهدهم مع أبي سفيان، ثم خرج مولى لبني عبد الدار وكان اسمه صواب من الحبشة وقاتل قتالًا أشد من السابقين جميعًا قاتل حتى قطعت يده الأولى، ثم الثانية، ثم قطعت رأسه وهو يحمل الراية حتى سقط وبسقوط هذا الغلام الحادي عشر سقطت الراية المشركة ولم ترفع بعد ذلك.
واحتدم القتال بين الفريقين وكان شعار المسلمين في هذا اليوم أَمِتْ أَمِتْ وكانت بداية قوية بالنسبة للمسلمين فقد سقط إحدى عشر قتيلًا من المشركين مقابل لا شيء من المسلمين فكان النصر في البداية حليف المسلمين وانهارت معنويات الكفار، وارتفعت معنويات المسلمين إلى أعلى درجة، وبدأ يسيطر المسلمون على الموقف وقاتلوا بقوة وبضراوة شديدة.
أبو دجانة وسيف رسول الله
وكان من أبرز المقاتلين في ذلك الوقت سيدنا أبو دجانة وحمزة بن عبد المطلب، ولقد فعلا الأفاعيل بجيش المشركين.
وأبو دجانة هو الذي أخذ السيف من النبي لما قال : "مَنْ يَأْخُذ هَذَا السَّيْفَ بِحَقِّهِ". وربط على رأسه عصابة حمراء وقالت الأنصار: أخرج أبو دجانة عصابة الموت. وجال في الأرض وقتل كثيرا من المشركين.
وكان الزبير بن العوام يجد في نفسه؛ لأن النبي أعطى السيف لأبي دجانة ولم يعطه له هو قال الزبير في نفسه: أنا ابن صفية عمته ومن قريش وقد قمت إليه فسألته السيف قبل أبي دجانة فأعطاه له وتركني والله لأنظرن ما يصنع فاتبعته فرأيته وهو يقول:
أنا الذي عاهدني خليلي ... ونحن بالسفح لدى النخيل.
أن لا أقوم الدهر في الكيول ... أضرب بسيف الله والرسول.
فيقول الزبير بن العوام فجعل لا يلقى أحد من المشركين إلا قتله.
وكان في المشركين رجل يقتل كل جريح مسلم، فيقول الزبير: فدعوت الله أن يجمع بينه وبين أبي دجانة. مع أن الزبير من كبار الفارسين، فاجتمعا فضرب ضربتين فضرب المشرك أبا دجانة، فاتقاه بدرقته أي بدرعه فعضت بسيفه، فضربه أبو دجانة فقتله.
واخترق أبو دجانة صفوف المشركين حتى وصل إلى صفوف النساء، ورأى أبو دجانة كما يقول: رأيت إنسانًا يخمش الناس خمشًا شديدًا، فصمدت له، فلما حملت عليه السيف وَلْوَل فإذا هو امرأة وكانت هند بنت عتبة فأكرمت سيف رسول الله أن أضرب به امرأة.
حمزة بن عبد المطلب
قاتل حمزة قتالًا شديدًا كقتال أبو دجانة، وقاتل قتالًا شديدًا في كل الميادين لم يقف أبدًا في وجهه أحد من المشركين، لكن وقف في ظهره وحشي بن حرب أحد الغلمان في جيش المشركين.
ويحكي وحشي بن حرب قصته فيقول: كنت غلامًا لجبير بن مطعم، وكان عمه عدي قد أصيب يوم بدر فلما أجمعت قريش المسير إلى أحد قال لي جبير: إنك إن قتلت حمزة عم محمد بعمي فأنت عتيق، قال فخرجت مع الناس وكنت رجلًا حبشيًا أقذف بالحربة قذف الحبشة قلما أخطئ بها شيئًا، فلما التقى الناس خرجت أنظر حمزة وأتبصره حتى رأيته في عرض الناس مثل الجمل الأورق يهد الناس هدًا ما يقوم له شيء، يقول وحشي: فهززت حربتي حتى إذا رضيت منها دفعتها إليه فوقعت في ثنته (أي في أحشائه) حتى خرجت من بين رجليه وذهب لينوء نحوي فغُلب. وكان يريد قتل وحشي، ويقول وحشي: فتركته حتى مات، فأخذت حربتي فذهبت إلى العسكر فقعدت فيه ولم يكن لي بغيره حاجة وإنما قتلته لأعتق فلما قدمت مكة عتقت.
وحلت الكارثة على جيش المسلمين بقتل حمزة أسد الله وأسد رسوله .
ومع قتل حمزة وبرغم الخسارة الفادحة التي خسرها المسلمون ظل المسلمون مسيطرون على الموقف تمامًا في أرض أحد.
قاتل عامة المسلمين يومئذ قتالًا عظيمًا شديدًا قاتل أبو بكر وعمر وعلي والزبير بن العوام ومصعب بن عمير وطلحة بن عبيد الله وعبد الله بن جحش وسعد بن معاذ كل المسلمين قاتلوا قتالًا شديدًا وأبلوا بلاءً حسنًا في ذلك اليوم.
محاولة خالد بن الوليد اختراق جيش المسلمين
كانت لخالد بن الوليد نظرة عسكرية ثاقبة وكان يومئذ مشركًا ورأى الثغرة التي يمكن له من خلالها أن يخترق جيش المسلمين والتف بفرقة كانت معه من فرسان المشركين حول جبل الرماة إلا أنه فوجئ بسيل من السهام من فوق الجبل من كتيبة الرماة التي وضعها النبي فوق الجبل فرَدّت خالد بن الوليد.
وما استطاع خالد بن الوليد بحنكته وذكائه أن يتجاوز تلك الكتيبة ويخترق خلف الجيش المسلم.
وكانت هذه المحاولة الأولى لخالد وكرر ذلك مرات عديدة إلا أنه في كل مرة ترده فرقة الرماة من فوق الجبل، وفشل سيدنا خالد في تجاوز فرقة الرماة التي كان قد وضعها النبي فوق الجبل.
نصر للمسلمين
وبدأت الهزيمة تدب في جيش المشركين ثلاثة آلاف مشرك وكأنهم يقابلون ثلاثين ألف مسلم برغم قلة المسلمين.
وبدأ المشركين يفكرون جديًا في الهرب وبدأوا يتراجعون إلى الوراء شيئًا فشيئًا ثم فروا قِبَل مكة تاركين النساء وراءهم حتى النساء هربن، ويقول الزبير بن العوام: لقد رأيت خدم هند بنت عتبة وصواحبها مشمرات هوارب ما دون أخذهن قليل ولا كثير.
فكان نصرا للجيش المسلم لا يقل روعة عن نصر بدر، يقول تعالى:
{وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} ]آل عمران:152[.
وتحسونهم أي: تستأصلونهم.
والله تعالى قد وعد المؤمنين إن كانوا صادقين وصابرين ومتبعين للنبي أن يعطيهم النصر في أحد وفي غيرها.
والرسول بشرهم بذلك قبل الخروج إلى أحد وإلى هذه اللحظة المسلمون ملتزمون بما قاله النبي بما كانوا عليه يوم بدر لذا تحقق النصر حتى هذه اللحظة.
وبنظرة إلى الجيش الإسلامي نجد أنه إلى الآن مؤمن بالله تعالى مؤمن باليوم الآخر، يطلب الجنة، طَبّق الشورى، أعد الجيش إعدادًا جيدًا، حاسم، معتمد على الشباب، القائد في هذا الجيش يعيش مع شعبه ويشترك معهم في كل صغيرة وكبيرة، الأخوة في الله واضحة في المعركة، الأمل في قلوبهم، واليقين في نصر الله يملأ نفوسهم، الأمر موسد إلى أهله، والصفات العشر التي تحدثنا عنهم في غزوة بدر متحققين في جيش أحد إلى هذه اللحظة، والنصر حليف للمسلمين.
{مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآَخِرَةَ}
وبعد هذا الانتصار العظيم وبعد الهروب الكبير لجيش المشركين تخلى بعض المسلمين عن صفة واحدة من تلك الصفات العشر فتغير الموقف تمامًا.