وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين

     .. سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر". **** وعن أبي هريرة و أبي سعيد رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «إن الله اصطفى من الكلام أربعا: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر *** قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بخ بخ لخمس ما أثقلَهن في الميزان: لا إله إلا الله، وسبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، والولد الصالح يُتوفَّى للمرء المسلم فيحتسبه ***

ad

الجمعة

كتاب : الإبداع الفكري والخصوصية الحضارية



الإبداع الفكري والخصوصية الحضارية
تأليف: د. محمد عمارة
تطبيقات تاريخية
1- في عهد الفاروق عمر بن الخطاب – رضي الله عنه -.
أخذت الخلافة وقتها من الرومان خبرتهم في تدوين الدواووين وهو أشبه ما يكون بالخبرات الإنسانية في النظامات والمؤسسات، ولكنها لم تأخذ القانون الروماني على الرغم من أنه كان مبوبًا ومنظمًا؛ وذلك لتميز الهوية الإسلامية بفلسفة خاصة في التشريع والتقنين، وهذا التميز هو الذي حفز فاعلية إبداع الأمة في الاجتهاد الفقهي.
2- نظام الخلافة الإسلامية.
إن التميز الإسلامي في نظرية الاستخلاف، استخلاف الله للإنسان الذي جسده الإسلام في الأمة لا الفرد أو الطبقة – لأن الإسلام هو دين الجماعة – هو الذي حفز العقل المسلم ليبدع نظام الخلافة الإسلامية، ولولا ذلك لجاء نظام الحكم الإسلامي تقليدًا أو محاكاة لأي من النماذج التي كانت سائدة وشهيرة في ذلك الوقت.
3- النظرة الإسلامية في تكريم الإنسان بعدم التميز العرقي أو اللغوي.
فأبدع العقل نظام للشورى يصبح فيه بلال الحبشي الذي أعتقه أبو بكر سيدًا يقول عنه الفاروق: “سيدنا أعتق سيدنا”.
4- السياسة الشرعية.
جاءت السياسة الشرعية سياسة تجمع بين ثمرات الاجتهاد الإنساني والضوابط الشرعية، وتؤلف ما بين المصالح الدنيوية ومعايير السعادة الآخروية.
فكان إبداع الإنسان المسلم والحضارة الإسلامية للسياسة الشرعية التي لم تقف تدابيرها ونظمها وتقنياتها عند مانطق به الوحي وبلغه الرسول، وإنما أضاف إليها الإنسان الاجتهادات المدنية التي تواكب المتغيرات وتستجيب للمستجدات، فتميزت عن سياسة الكهنوت النصراني في دولة الحكم بالحق الإلهي تلك التي حصرت السياسة فيما جاء به اللاهوت.
وتميزت كذلك عن السياسة العقلية المحضة التي لم تضبط الاجتهاد العقلي بضوابط الشرع وحدود الله.
5- فقه المعاملات.
اقتضى التميز السياسي للسياسة الشرعية تميزًا في فقه المعاملات والقانون الحاكم للمجتمع الإسلامي.
فكان ذلك حافزًا للعقل المسلم على إبداع فقه متميز انضبط فيه الاجتهاد الفقهي بمبادئ الشريعة وقواعدها وحدودها ومقاصدها وبالفلسفة الإلهية في التشريع. فالشريعة وضع إلهي ثابت، والفقه اجتهاد الفقهاء محكومًا بالشريعة الإلهية الثابتة. والله سبحانه وتعالى هو الشارع ولا يسمى فقيهًا. ومجتهدونا فقهاء وليسوا بمشرعين، وثمرات اجتهاداتهم في فقه المعاملات إبداع إسلامي متميز في القانون. لم تعرفه المنظومات القانونية الأخرى.
6- الحضارة الإسلامية ومقاصد الشريعة.
ميزت نظرية الاستخلاف الإسلامية آفاق العمران الإسلامي وهو ما درج على تسميته بالحضارة الإسلامية فشملت هذه الآفاق الدين والدنيا، جاعلة الدين واحدًا من الضرورات التي يتأسس عليها العمران.
ولقد حفّز هذا التميز فعاليات الإبداع في العقل المسلم، فاستخلص من النصوص الشرعية التي تواترت تواترًا معنويًا مبحث “مقاصد الشريعة” الشامل لـ “الضرورات” وهي التي لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، وبدونها تختل استقامة المصالح فتتهدد الحياة في الدنيا والنجاة والنعيم في الآخرة.
وهذه الضرورات هي خمس: الحفاظ على الدين – الحفاظ على الإنسان – الحفاظ على العقل – الحفاظ على النسب – الحفاظ على المال.
وتأتي “الحاجات” تاليًا لها في مقومات العمران الإسلامي – وهي التي يتوقف على وجودها التوسعة ورفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة –.
ثم “التحسينات” التي يؤدي وجودها وتحققها إلى زينة العمران وكماله بمحاسن العادات.
7- العقلانية المؤمنة.
إن المعجرة الإسلامية – القرآن الكريم – لم تأت كالمعجزات المادية للخالين من الرسل لتدهش العقل وتعجزه وتشل فعالياته، وإنما جاءت لتحفزه على النظر والتفكر والتدبر والتفقه، ليفقهها ويدرك أسرار إعجازها، ويميز متشابهها من محكمها وليفقه – أيضًا مع آياتها – آيات الله في الأنفس والآفاق، فهي لذلك معجزة عقلية، تستنفر العقل للفعل وتحتكم إليه في الفقه، وتعينه على معرفة مالا يستطيع – لنسبية إدراكه – أن يستقل معرفته من نبأ الغيب والأحكام التعبدية في الدين.
لذلك كان حفز هذا التصور لفلاسفة الإسلام على أن يبدعوا فلسفة تقيم البراهين العقلية على صدق الإيمان الديني لا فلسفة تنقصه.
كما حفز هذا التصور فلاسفة الإسلام على أن يبدعوا في “المعرفة” نظرية تفردت بها حضارتنا دون غيرها من الحضارات، حيث اعتمد فلاسفة الإسلام لمصادر المعرفة كتاب الله المسطور بآياته المقروءة وكتابه المنظور بآياته المبثوثة في الأنفس والآفاق.
فعلى حين وقف التصور الوضعي والمادي في الحضارة الغربية بسبل المعرفة عند العقل والتجربة وحدهما فإن فلاسفة الإسلام قد اعتمدوا في سبل المعرفة على أربع هدايات هي: العقل و النقل – الوحي – التجربة – الوجدان، فتتكامل هذه السبل على النحو الذي تصبح فيه منظومة واحدة وتكون تجربتها لونًا من العلم النافع الذي هو عبادة تنمي خشية العلماء لله بنماء اكتشافهم للأسرار التي أودعها سبحانه في المخلوقات.
تطبيقات حديثة ومعاصرة
لقد وعى الغزو الغربي الحديث أن الإحتلال العسكري له أجل وبالتالي فإن السبيل إلى تأبيد التبعية هو إحتلال العقل بإذابة سمات وقسمات التميز الحضاري للعرب والمسلمين، حتى تصبح الحضارة الغربية النموذج الذي يسعون إلى محاكاته وتقليده، فتصبح بلادهم هامشاً للمركز الغربي في الامن والإقتصاد تربطها التبعية الفكرية إلى هذا المركز حتى بعد جلاء جيوش الإحتلال.
ومنذ ذلك الوقت كان الصراع بين “التقليد” و “التجديد” بين “المحاكاة” وَ “الفاعلية” بين “التشبه” وَ “الإبداع”. القاسم المشترك الأعظم والأعم في كل مدارس الفكر وتياراته بوطن العروبة وعالم الإسلام، فنشأ تياران للفكر في ميدان الدعوة إلى النهوض والتقدم و التغيير:
1- تيار استهلاكي: يدعو إلى تقليد النموذج الغربي في التقدم والنهوض، ومن أمثلة من ساروا على هذا الدرب د.طه حسين.
فلا اجتهاد مع النص الغربي وعلينا أن نحيل ملكاتنا الإبداعية إلى الاستيداع؛ فالفلسفة جاهزة ومذاهبها معلبة من سقراط إلى فوكو، وكذلك الديمقراطية تجاربها مؤطرة من أثينا إلى انجلترا، والنظام الاجتماعي نماذجه محددة من آدم سميث إلى ماوتسي تونج، والمذاهب الأدبية محددة المعالم من الكلاسيكية إلى ما بعد الحداثة. وما علينا سوى إختيار البضاعة ثم الإستهلاك!
2- تيار الإحياء والتجديد: ويدعو إلى إعادة الصياغة والبلورة للمعالم الحضارية التي يتميز بها نموذجنا الخاص عن النماذج الأخرى، ولتطبيقه على الواقع الخاص.
من أمثلة تيار الإحياء والتجديد:
رفاعة الطهطاوي (1216-1290هـ / 1801-1873م )
وكان أول عين للشرق على الغرب في تلك الحقبة، وهو تلميذ الشيخ حسن العطار الذي أطلق صيحة الدعوة إلى التغيير والتجديد.
وكان الطهطاوي محصنًا ضد الانبهار، ومالكًا لعناصر “رؤية نقدية”، وقد سبر غور النوذج الغربي في التقدم وحدد طلبتنا في بضاعة ذلك التقدم، ونبه على ما فيه من باطل وضار على النحو الذي مثلت فيه نظرته هذه “قانون التفاعل بين الحضارات” والموقف الصحي الذي التزمته مدرسة الإحياء الإسلامي في هذا الميدان.
أدرك الطهطاوي أن ما نحتاجه من أوروبا هو علوم “المشترك الإنساني العام” علوم التمدن المدني، علوم تطوير وتغيير الواقع المادي – لا تغيير النفس الإنسانية المسلمة – العلوم الطبيعية والدقيقة والمحايدة.
ثم توجه إلى الأزهر طالبًا إدخال هذه العلوم لتدرس مع علومنا الإسلامية التي تمثل هويتنا وخصوصيتنا الحضارية، فقد كان باحثاً عن إضافة ولم يكن باحثًا عن بديل.
ولقد تأسس رفض الطهطاوي للمنطلقات الفلسفية الوضعية والمادية الغربية على نظرة مقارنة رأت هذه الوضعية في ضوء الخصوصية الإسلامية؛ فالإسلام لا يهمل “العقل” ولا “التجرية” في النواميس الطبيعية ولكنه لا يكتفي بهما، كما هو حال الوضعية والمادية الغربية، وإنما يضيف الشرع الحاكم فيما لا يستقل بإدراكه الإنسان، فالإسلام – بهذه الفلسفة المؤمنة – يضيف ولا ينتقص، وإضافته هي التي تحقق التوازن في ثقافة الإنسان. كذلك رفض القانون الوضعي الغربي ودعا إلى الاجتهاد الإسلامي، والإبداع الفقهي طالبًا جعله شريعة القضاء في كل مناحي الحياة.
جمال الدين الأفغاني (1254-1314هـ)/(1838-1897م)
لقد زاد هو وتلامذته هذا الموقف الإحيائي والتجديدي تفصيلاً وشمولاً عند أعلام “مدرسة الجامعة الإسلامية”.
اعتبر الأفغاني أن تبني النموذج الغربي في التقدم، والبدء من حيث انتهى الغرب تشويه لخصوصية الأمة الحضارية، والتقليد للتمدن الغربي لا تقف آثاره المدمرة عند ذبول ملكات الإبداع في تجديد وتطوير النموذج الإسلامي. وإنما يتعدى الخطر إلى تبديد الثروة القومية في استيراد البديل الغربي، وإماتة الصناعة الوطنية وفي ذلك تحقيق مقاصد الإستعمار في التبعية والإلحاق والإحتواء.
الإمام محمد عبده (1265- 1323هـ) / (1849-1905م)
أيضًا سار الإمام محمد عبده على هذا الدرب فانتقد النموذج الحضاري الغربي ونمطه المادي في المدنية، ولفت النظر إلى التناقض بين نجاح الفكر الغربي وفلاسفة الغرب في التقدم المادي وبين إخفاقهم وفشلهم في علوم ومعارف الفطرة الإنسانية منبهًا إلى أن الدين هو السبيل إلى الكشف عن هذه الفطرة على النحو الذي يصقل النفوس كما صقلت معارف الغرب المادية المعادن والمصنوعات.
إن أزمتنا الحقيقية ومأزقنا الأكبر عربًا ومسلمين هو الفقر في الإبداع والإسراف في التقليد، ولن نبعث في الأمة طاقات الفاعلية وننمي لديها ملكات الإبداع إلا إذا استيقنت أن طريقها إلى الخلاص هو طريق متميز، لا يجدي فيه الاستيراد والاستهلاك. عند ذلك يكون الولوج إلى أبواب الإبداع؛ فكما يقولون: الحاجة أم الإختراع.
وإذا كان الإبداع هو طوق النجاة فإن الحاجة إلى صياغة نموذجنا الإسلامي النهضوي هي أولى درجات سلم الإبداع في وطن العروبة وعالم الإسلام.

المشاركات الشائعة