"الخلفاء الراشدون"
تبدأ قصتنا بخبر وفاة الرسول الذي أحدث ضَجَّة كبيرة, وصدمة عظيمة لكثير من المسلمين، خاصَّة عند عمر بن الخطاب الذي قام وقال: إن رجالاً من المنافقين يزعمون أن رسول الله قد تُوُفِّيَ، وإن رسول الله ما مات، ولكنه ذهب إلى ربِّه كما ذهب موسى بن عمران، فقد غاب عن قومه أربعين ليلة، ثم رجع إليهم بعد أن قيل: قد مات. والله ليرجعَنَّ رسول الله كما رجع موسى، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم زعموا أن رسول الله قد مات.
بينما أقبل أبو بكر حتى نزل على باب المسجد -حين بلغه الخبر- وعمر يُكَلِّم الناس، فلم يلتفت إلى شيء حتى دخل على رسول الله في بيت عائشة رضي الله عنها, ورسول الله مسجًّى في ناحية البيت، عليه بردة حَبِرَة ، فأقبل حتى كشف عن وجه رسول الله ثم أقبل عليه فقبَّله، ثم قال: بأبي أنت وأمي، أما الموتة التي كتب الله عليك فقد ذقتها، ثم لن تصيبك بعدها موتة أبدًا.
ثم ردَّ البردة على وجه رسول الله ، وخرج وعمر يُكَلِّم الناس، فقال: على رسْلك يا عمر، أنصت. فأبى إلا أن يتكلَّم، فلما رآه أبو بكر لا يُنصت، أقبل على الناس، فلما سمع الناس كلامه أقبلوا عليه وتركوا عمر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إنه مَن كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومَن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت. ثم تلا قول الله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} آل عمران: 144 . فقال أبو هريرة: فوالله لكأنَّ الناس لم يعلموا أن هذه الآية نزلت، حتى تلاها .
وعقب وفاة النبي اجتمعت الأنصار إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة، فذهب إليهم أبو بكر، وعمر بن الخطاب، وأبو عبيدة بن الجرَّاح, فذهب عمر يتكلَّم، فأسكته أبو بكر، وكان عمر يقول: والله ما أردت بذلك إلا أني قد هيَّأت كلامًا قد أعجبني، خشيت أن لا يبلغه أبو بكر، ثم تكلَّم أبو بكر، فتكلَّم أبلغَ الناس، فقال في كلامه: نحن الأمراء وأنتم الوزراء. فقال حباب بن المنذر: لا والله لا نفعل، منا أمير ومنكم أمير. فقال أبو بكر: لا، ولكنَّا الأمراء، وأنتم الوزراء، وهم 4 أوسط العرب دارًا، وأعربهم أحسابًا، فبايعوا عمر، أو أبا عبيدة. فقال عمر: بل نبايعك أنت، وأنت سيِّدنا وخيرنا، وأحبُّنا إلى رسول الله. ثم قال للأنصار: يا معشر الأنصار، ألستم تعلمون أن رسول الله أمر أبا بكر أن يؤمَّ الناس، فأيُّكم تطيب نفسه أن يتقدَّم أبا بكر؟!! فقالت الأنصار: نعوذ بالله أن نتقدَّم أبا بكر! ثم بادر عمر وقال لأبي بكر: ابسط يدك. فبسط يده فبايعه، وبايعه المهاجرون، ثم الأنصار .
مبايعة أبي بكر للخلافة:
بايع الناس أبا بكر في المسجد -بعد بيعة قادة المهاجرين والأنصار له في سقيفة بني ساعدة- فقام أبو بكر خطيبًا في الناس ليُعْلِن عن منهجه، فبعد أن حمد الله وأثنى عليه، قال: أما بعد، أيها الناس، فإني قد وُلِّيتُ عليكم ولست بخيركم، فإنْ أحسنتُ فأعينوني، وإنْ أسأتُ فقوِّموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أرجع عليه حقَّه إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف حتى آخذ الحقَّ منه إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا خذلهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمَّهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.
ونجح المسلمون -الأنصار والمهاجرون- في أوَّل امتحان لهم بعد وفاة الرسول، فقد احترموا مبدأ الشورى، وتمسَّكوا بالمبادئ الإسلاميَّة، فقادوا سفينتهم إلى شاطئ الأمان.
وكان الإسلام في عهد النبي قد بدأ ينتشر بعد السنة السادسة للهجرة، وبعد هزيمة هوازن وثقيف بدأت الوفود تَرِد إلى الرسول معلنة إسلامها، فدخل الناس في دين الله أفواجًا، وقلَّ عدد المشركين الذين يعبدون الأصنام، لكنَّ بعض الذين دخلوا في الإسلام كان منهم ضعاف الإيمان، ولم يكن الإيمان قد استقرَّ في قلوبهم، فلم يدخلوا في الإسلام إلا انبهارًا بسيطرة المسلمين على الجزيرة العربيَّة، ومنهم مَن جاء رغبة في المال والغنائم، والارتباط بالقوَّة الأُولَى الجديدة في الجزيرة، ومنهم مَن جاء خوفًا من قوَّة المسلمين، ومنهم مَن جاء لا رغبة ولا خوفًا، ولكن اتِّباعًا لزعمائهم وقادتهم، فَسَاقهم زعماؤهم كالقطيع، فدخلوا في دين لا يعرفون حدوده، ولا فروضه، ولا تكاليفه، ولم يفقهوا حقيقة الرسول وحقيقة الرسالة، ولم يعيشوا مع القرآن ولا مع السُّنَّة.
إنفاذ جيش أسامة:
كانت وفاة الرسول فرصة لهؤلاء لكي يُظْهِروا ما أخفَوْه خلال الفترة الماضيَّة، ولكي يُعْلِنوا ردَّتهم عن الدين الحنيف، وكان ارتداد الجزيرة العربيَّة على درجات؛ فمِن العرب مَن منع الزكاة، ومنهم مَن ترك الإسلام كلَّه وعاد إلى ما كان يعبد من أصنام، ومنهم مَن لم يَكْتَفِ بالردَّة، بل انقلبوا على المسلمين الذين لم يرتدُّوا، فقتلوهم، وذبحوهم، وفعلوا بهم أشنع المنكرات, فكان على أبي بكر أن يُواجه هؤلاء جميعًا، وليس هذا فقط بل كان عليه أن يُؤَمِّن حدود الدولة الإسلاميَّة ضدَّ الأعداء الخارجيين وفي مقدِّمتهم دولة الروم، وكان الرسول قد أعدَّ لذلك جيشًا بقيادة أسامة بن زيد؛ لإرساله إلى مشارف بلاد الشام؛ بهدف الثأر من الروم لقتلى معركة مؤتة، وتأديب الغساسنة, وأوصى بإنفاذه قبل وفاته ، ولكنه مات قبل أن يَبْرَح الجيش المدينة، وظلَّ أسامة بجيشه على حدود المدينة ينتظر الأوامر .
وراح الجميع يُفَكِّرون في مواجهة أعداء الأمة الإسلاميَّة الوليدة, فرأى بعض المسلمين أن تُوَجَّه كلُّ الجهود إلى محاربة المرتدِّين، وأن يُؤجّل إنفاذ جيش أسامة لمحاربة الروم إلى ما بعد القضاء على المرتدِّين، وأن يتفرَّغ أبو بكر لذلك، ولكنَّ أبا بكر وقف شامخًا راسخًا، يُؤكِّد العزم على قتالهم جميعًا في كل الجبهات قائلاً: "والله لأقاتلَنَّ من فرَّق بين الصلاة والزكاة؛ فإن الزكاة حقٌّ المال، واللهِ لو منعوني عقالاً كانوا يؤدُّونه إلى رسول الله لقاتلتهم على منعه" .
ولقد أصرَّ أن يُتِمَّ بعث أسامة قائلاً: "والله لا أحُلُّ عقدةً عقدها رسول الله ، ولو أن الطير تَخْطَفُنَا، والسباع من حول المدينة، ولو أن الكلاب جَرَت بأرجل أُمَّهات المؤمنين لأجهزنَّ جيش أسامة" .
فيعرض عليه بعض الصحابة تغيير أمير الجيش، فيأتي له عمر بن الخطاب، ويقول: "لو اتَّخذت أميرًا غير أسامة". وكان سِنُّهُ يومئذٍ 17 أو 18 عامًا، فالأمر صعب ويحتاج إلى الحكمة، فيُمسكه أبو بكر من لحيته، ويهُزُّه ويقول له: "ثكلتك أمُّك يابن الخطاب! أؤمِّر غير أمير رسول الله ؟!" .
وكان لخروج الجيش إلى أطراف الشام فائدة كبيرة للمسلمين حيث فرَّت أمامه الجيوش الروميَّة في هذه المنطقة، فلم يَلْقَ قتالاً، فوجد بعض القبائل في هذه المنطقة ارتدَّتْ، فقاتلهم، وشتَّتَ شملهم، وهزمهم، وعاد بسرعة إلى أبي بكر الصِّدِّيق في المدينة، فأحدث بكل القبائل العربيَّة الموجودة في هذه المنطقة رهبة من المسلمين مما جعلهم يظنُّون أن للمسلمين قوَّة في المدينة، وأن هذا جزء صغير من الجيوش الموجودة فيها، فقرَّرَوا عدم الهجوم على المدينة وإيثار للسلامة، مع أنه لم يكن هناك جيش بالمدينة, فكان إنفاذه لجيش أسامة حكمة ألهمها الله لأبي بكر.
وبعدما علمت القبائل المرتدَّة بخروج جيش أسامة أرسلت عُيَيْنة بن حصن الفزاري، ومعه الأقرع بن حابس؛ ليُفاوضا المسلمين في المدينة في أن يَقْبَلَ أبو بكر منهم الصلاة، ويرفعَ عنهم الزكاة، في مقابل أن يرفع المرتدُّون أيديهم عن المدينة، فجاء الصحابة إلى أبي بكر يعرضون عليه قَبول طرح عُيينة بن حصن، والأقرع بن حابس، بل إعطاءهما بعض المال، وذلك لتحييدهما ، وتخفيف ضغط الأزمة.
لكنَّ الصِّدِّيق كان له رأي آخر، وهو أن يُقاتلهم حتى يؤدُّوا حقَّ الله فيما عندهم من أموال؛ لعلمه بأن الزكاة ركن من أركان الإسلام، لا فرق بينه وبين الصلاة والحجِّ والصوم.
فعارضه عمر بن الخطاب وبعض الصحابة ولكنَّ أبا بكر يردُّ عليهم بكلمات خالدة، قائلاً: "أُقاتلهم وحدي حتى تنفرد سالفتي .
ودخلت كلمات أبي بكر في قلوب الصحابة فلم تترك شكًّا, ولا تَحَيُّرًا إلا أزالته، فعزموا على قتال كلِّ مَن ارتدَّ عن الإسلام.
فقام الصِّدِّيق أولاً بحراسة المدينة المنوَّرة حراسة مستمرَّة، فوضع الفِرَق العسكريَّة في كل مداخل المدينة، ثم قام بمراسلة كل القبائل التي بقيت على الإسلام لتوافيه في المدينة المنوَّرة، وأقام مُعَسْكَرًا للجيوش الإسلاميَّة في شمال المدينة، وأرسل رسائل شديدة اللهجة إلى كل قبائل المرتدِّين يدعوهم فيها إلى العودة إلى ما خرجوا منه، وإلاَّ حاربهم أشدَّ المحاربة، وهدَّدهم وتوعَّدهم؛ وذلك ليُلْقِيَ الرهبة في قلوبهم، كنوعٍ من الحرب النفسيَّة على المرتدِّين .
حروب الردة:
حروب الردةبدأ الصِّدِّيق في تجهيز مجموعة من الجيوش الإسلاميَّة التي ستخرج لحرب المرتدِّين في وقت متزامن، فجهز أحدَ عشرَ جيشًا كاملاً، لا يتعدَّى قِوَامها ألفين أو ثلاثة أو على الأكثر خمسة آلاف، ولكنها كانت جيوشًا مُنَظَّمة، راغبةً في الجهاد في سبيل الله، فاهمةً لقضيَّتها، معتمدة على ربِّها، وحدَّد الصِّدِّيق اتِّجاه كلِّ جيش من هذه الجيوش الأحد عشر، فوُزِّعت هذه الجيوش على الجزيرة توزيعًا دقيقًا، بحيث لا تبقى قبيلة أو منطقة إلا ويمرُّ بها جيش المسلمين.
واختار الصِّدِّيق أحدَ عشرَ قائدًا فذًّا من قوَّاد الإسلام على رأس هذه الجيوش؛ فقاد خالد بن الوليد الجيش الأول المتَّجه إلى طيِّئ أوَّلاً، ثم بني أسد؛ تلك القبيلة الخطيرة التي يقودها طليحة بن خويلد الأسدي, ثم بني تميم، وفيهم مالك بن نُوَيْرَة، فإذا انتهى مِن كلِّ هذا بنجاح فإنَّ عليه أن يتوجَّه إلى بني حنيفة، لمقابلة أخطر جيوش المرتدِّين، وعلى رأسها مُسيلمة الكذَّاب؛ وذلك لمساعدة الجيشيْن الثاني والثالث .
وكان عكرمة بن أبي جهل على رأس الجيش الثاني، وشُرَحْبِيل بن حَسَنَة على رأس الثالث، وأَمَر الصِّدِّيقُ عكرمةَ ألا يُقاتل حتى يأتيه جيش شُرَحْبِيل، وكان جيشه حوالي ثلاثة آلاف، بينما يتعدَّى جيش مسيلمة مائة ألف رجل، فتعجَّل عكرمة بن أبي جهل في قتال مسيلمة قبل أن يأتيه شُرَحْبِيل بن حَسَنَة، فاجتاح جيشُ مسيلمة جيشَ عكرمة بن أبي جهل، ففرَّ جيش عكرمة، وتفرَّقوا في المنطقة، ووصلت الأنباء إلى الصِّدِّيق بالمدينة، فحزن حزنًا شديدًا، وعلم أن الجيش الإسلامي في طريقه إلى المدينة، فأرسل رسالة إلى عكرمة بن أبي جهل عَنَّفه بشدَّة على تسرُّعه في محاربة مسيلمة الكذاب، وقال له: لا ترجع بجيشك إلى المدينة، واتَّجه بجيشك إلى حذيفة بن محصن، وعَرْفَجَةَ بن هَرْثَمَةَ في اليمن، فقاتِل معهما .
وعندما وصل جيش شُرَحْبِيل بن حَسَنَة قرب بني حنيفة عسكر منتظرًا مدد أبي بكر الصِّدِّيق ، ثم تعجَّل فهاجم بجيشه الصغير -ثلاثة آلاف مجاهد- جيش مسيلمة، فحَدَث مع جيشه نفس الذي حدث مع عكرمة بن أبي جهل، فحَزِنَ الصِّدِّيق حزنًا شديدًا، وأرسل له أنِ امْكُث في مكانك، ولا ترجع إلى المدينة.
ثم كلَّف الصِّدِّيق خالد بن الوليد بقتال بني حنيفة، فهزمهم في معركة اليمامة بعد قتال عنيف، ظهرت فيه بطولات المهاجرين والأنصار, وقُتِلَ مسيلمة الكذَّاب على يَدِ بطلين؛ هما وحشيّ بن حرب بحربته، وأبي دُجَانَةَ بسيفه, وبلغ عدد قتلى المرتدِّين في معركة اليمامة 21000 قتيل، واستُشْهِد من جيش المسلمين 1200 شهيد، منهم 500 من حفظة القرآن، ثم صالح خالد بني حنيفة؛ فعادوا للإسلام، وذهبوا إلى أبي بكر الصِّدِّيق، وبايعوه .
كان الجيش الخامس مُتَّجهًا إلى الشمال وعلى رأسه خالد بن سعيد , وكان متَّجهًا لقبيلة قُضَاعَة. أما الجيش السادس فكان مُتَّجهًا إلى مشارف الشام، وعلى رأسه عمرو بن العاص ، ولم يُلاقِ هذان الجيشان قتالاً يُذكر، وما إن وَصَلا إلى الشام حتى فرَّت منهم القبائل، فعادوا إلى المدينة .
أما الجيش السابع فاتَّجه إلى قبائل عبد القيس الموجودة في البحرين، وكان على رأسه العلاء بن الحضرمي، وكانت كلُّ القبائل في تلك المناطق قد ارتدَّت عن الإسلام وعلى رأسها قبيلة عبد القيس، وما ثبت على الإسلام إلا قرية صغيرة تسمى جُوَاثَى التي حاصرها المرتدُّون، فأرسل رسائل إلى القبائل المرتدَّة لعلَّها تعود للإسلام، ولكنهم رفضوا, وأصرُّوا على موقفهم, فدارت المعارك بين الجيش المسلم والمرتدِّين استمرَّت شهرًا كاملاً، وفي ذات يومٍ سمع العلاء بن الحضرمي ضَجَّة في معسكر المرتدِّين، فعلم أنهم سُكارى، فجهَّز جيشه في الليل، وباغتهم فهزمهم هزيمة ساحقة، وفرَّ بعضهم إلى جزيرة دارين، ولم يكن مع العلاء بن الحضرمي في ذلك الوقت سفن، فرَكِب الجيش البحر، ووصلوا إلى دارين دون أن يفقد المسلمون مقاتلاً واحدًا، ورأى الفارُّون المرتدُّون جموعَ المسلمين تخرج من البحر، فسُقِطَ في أيديهم، وأَعْمَل المسلمون فيهم السيف، وقتلوا منهم أعدادًا كثيرة، ثم عاد المسلمون منتصرين في سفن المرتدِّين .
أما الجيشان الثامن والتاسع فاتَّجها إلى عُمَان فكان الجيش الأول بقيادة حذيفة بن محصن ، والجيش الآخر كان بقيادة عَرْفَجَة بن هرثمة، وقد أَمَر أبو بكر الجيشين بأن يتَّحدا بقيادة حذيفة بن محصن، ولحق بهما عكرمة بن أبي جهل بعد أن هُزِم أمام مسيلمة وأرسل حذيفة رسالة إلى جَيْفَر وعبَّاد فرجعا بمن معهما من المسلمين إلى جيش حذيفة بن محصن، وعسكروا مع المسلمين، بينما جهَّز لُقَيْط -الذي ادَّعى النبوَّة بعد وفاة النبي - جيشه، وتقابل مع المسلمين في موقعة شرسة، وكانت القوَّة متكافئة، وظلَّ الفريقان في صراع إلى أن مَنَّ الله على المسلمين بمدد من جيش العلاء بن الحضرمي، فرَجَحَت كِفَّة المسلمين، وكتب الله النصر للمسلمين، وقُتل لُقَيْط بن مالك، وقُتل معه عشرة آلاف مرتدٍّ .
ثم انطلقت جيوش المسلمين الثلاثة بعد ذلك إلى مَهَرَة لقتال المرتدِّين هناك، ولما وصل الجيش إلى مَهَرَة بعث أبو بكر برسالة يُؤَمِّرُ فيها عكرمة بن أبي جهل على الجيوش الثلاثة, وكان بهذه المنطقة كثير من القبائل المرتدَّة، وكان على رأس هذه القبائل اثنان يُدعى أحدهما شخريط والآخر مَصْبَح، وبعد ارتدادهما اختلفا وتقاتلا، فكلٌّ منهما يريد إمارة المرتدِّين، ووصل عكرمة، وعلم بأمرهما فراسل شخريطًا، وهدَّده بقوَّة المسلمين، ورغَّبه في الإسلام، فأسلم شخريط لمَّا تيقَّن من قوَّة المسلمين، وأنهم سيحاربون معه ضدَّ مَصْبَح، وتسلَّل بجيشه وانضمَّ إلى جيش عكرمة بن أبي جهل، وقاتل المسلمون في هذه المعركة قتالاً شديدًا، وصبروا حتى كتب الله لهم النصر .
وبعد انتصار المسلمين في مَهَرَة جمع عكرمة الجيش ليذهب به إلى اليمن، وكان المتَّجِه إلى اليمن جيشان؛ الجيش العاشر بقيادة المهاجر بن أميَّة حيث اتَّجه إلى صنعاء، والجيش الحادي عشر بقيادة سُوَيْد بن مُقَرِّن توجه إلى تهامة، وكان الأسود العنسي قد ادَّعى النبوَّة قبل وفاة النبي ، ولكنه قُتل على يَدِ فيروز الدَّيْلَمي, وقيس بن مكشوح الذي كان على رأس المرتدِّين بعدما عَلِمَ بوفاة الرسول ، ولكنه هُزِمَ هزيمة ساحقة على يَدِ الجيوش الإسلاميَّة فاستسلم، واستسلم معه عمرو بن معديكرب، وأرسلوا إلى الصِّدِّيق مع أحد الرسل، وفي الطريق أسلما قبل أن يصلا إلى المدينة، وقَبِل منهما الصِّدِّيق الإسلام .
جمع القرآن:
جمع القرآن انتهت حروب الردَّة، وتمَّ القضاء على كلِّ مَن ادَّعى النبوَّة وبدأت أنظار المسلمين تتَّجه إلى أمرين؛ أوَّلهما: التفكير في جمع القرآن وحفظه؛ فقد كان القرَّاء والعلماء أسرع الناس إلى العمل والجهاد؛ لرفع شأن الإسلام والمسلمين، فخرج عدد كبير منهم لجهاد المرتدِّين, فكان استشهادهم في معركة اليمامة بمنزلة إنذار للمسلمين حتى يحفظوا قُرْآنهم من الضياع, فأشار عمر بن الخطاب على الصِّدِّيق بجمع القرآن، فيقول أبو بكر : إن عمر أتاني، فقال: إن القتل قد استحرَّ يوم اليمامة بقُرَّاء القرآن الكريم، وإني أخشى أن يستحرَّ القتل بالقُرَّاء في المواطن كلها، فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن. قلتُ لعمر: كيف أفعل شيئًا لم يفعله رسول الله ؟! فقال عمر: هذا والله خير، فلم يزلْ عمر يُراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر عمر، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر .
فأَمَر الصِّدِّيق زيدَ بن ثابت بجمعه قائلاً له: إنك رجل شاب عاقل، لا نتَّهمك، وقد كنتَ تكتب الوحي لرسول الله ، فتتبَّعِ القرآنَ فاجمَعْه. فقال زيد: فوالله لو كلَّفني نقلَ جبل من الجبال ما كان بأثقل عليَّ مما كلفني به من جمع القرآن .
وثاني الأمرين هو تأمين حدود دولتهم، فالفرس يقفون في وجه الدعوة الإسلاميَّة، ويساندون أعداءها, كما يحارب الروم الدعوة وينصرون خصومها.
الخروج للفرس والروم:
بدأت عداوة الفرس للمسلمين في عهد الرسول، عندما أمر ملك الفرس عامله على اليمن أن يرسل من عنده رجلاً ليقتل رسول الله أو يأسره، بعدما أرسل له النبي مَن يدعوه إلى الإسلام، ولكن الله أَهْلَكَ ملك الفرس عندما ثار عليه قومه، وحفظ رسوله حتى مات .
وعندما ارتدَّت العرب ظنَّ الفرس أن العرب المرتدِّين سيقضون على الإسلام في مهده، ولكن الله خَيَّبَ ظنَّهم، فعادوا يكيدون للإسلام، فما كان من أبي بكر الصِّدِّيق إلا أن بعث إليهم خالد بن الوليد، وتحرَّك الجيش بقيادته نحو العراق، ونزل الحيرة فدعا أهلها إلى الإسلام، أو الجزية، أو الحرب, فقَبِل أهل الحيرة أن يدفعوا للمسلمين الجزية ويعيشوا في أمان وسلام، وكانت هذه أوَّل جزية تُؤخذ من الفرس في الإسلام .
وسار خالد بجيشه إلى الأنبار، فهزم أهلها حتى نزلوا على شروطه، وقبلوا دفع الجزية أيضًا. ثم اتجه إلى "عين التمر"، ومنها إلى "دُومَة الجَنْدَل"، وفتحهما عَنوةً وقهرًا بعد أن رفض أهلها الإسلام والجزية وأعلنوا الحرب! فانتصر البطل الفاتح عليهم وأَمَّنَ بذلك حدود الدولة الإسلاميَّة الناشئة من ناحية الفرس .
حرب الروم:
لكن خطر الروم ما زال يهدد الدولة الإسلاميَّة!! فهذا هرقل إمبراطور الروم قد جمع قوَّاته على حدود فلسطين؛ وحرَّض العرب المجاورين له على معاداة المسلمين ليُوقِفَ المدَّ الإسلامي، ولكن كلمة الله لا بد أن تكون هي العليا، ولا بُدَّ أن يُزيل أبو بكر كلَّ العوائق التي تقف في طريق الدعوة الإسلاميَّة، وتتربَّص بها، تريد القضاء عليها!
فدعا أبو بكر المجاهدين لحرب الروم في الشام، وأعلن التعبئة العامَّة ليُلَقِّن كلَّ الذين يُفَكِّرون في العدوان على الإسلام والمسلمين درسًا لا يُنْسَى، وتحرَّكت الجيوش من "المدينة المنورة" وبتشكيل أربع فرق، يقودها قوَّاد عباقرة عظام؛ فكان على رأس الأُولى "عمرو بن العاص" ووِجْهَتُه فلسطين، وكان على رأس الثانية "يزيد بن أبي سفيان" ووجهته دمشق, وكان على رأس الثالثة "الوليد بن عقبة" ووجهته وادي الأُرْدُنِّ, أما الرابعة فكان على رأسها "أبو عُبَيْدَة بن الجرَّاح" ووجهته حمص .
وكان الصِّدِّيق قد بَعث خالد بن سعيد بن العاص يُرابط بقوَّاته قرب مناطق يسيطر عليها الروم والقبائل العربيَّة التي تعتنق النصرانيَّة وتحالف الروم، ثم أرسل قوَّاده الأربعة إلى بلاد الشام بعد ذلك، وقد أدرك الروم ما يرمى إليه خليفة المسلمين، فاستعدُّوا لحرب آتية لا بُدَّ منها مع المسلمين، فنقل هرقل مقرَّ القيادة إلى حمص ليكون أقرب من مَيْدَان القتال، ولما رأى المسلمون ذلك طلبوا من أبي بكر أن يرسل إليهم بالمدد، فأرسل أبو بكر إلى خالد بن الوليد أن يتحرَّك بمن معه في نجدة إلى الشام، ولا سيَّما أن الفرس في حالة من الضعف، ورحل خالد بمن معه إلى الشام، حيث جَرَت معركة اليرموك بين المسلمين والروم، واحتشدت القوَّات للمواجهة، وقبل البدء في القتال كان أبو بكر قد تُوُفِّيَ يوم الاثنين (22 جمادى الآخرة عام 23هـ/ 634م) إثر إصابته بالحمَّى، وهو ابن ثلاث وستين سنة، ودُفِنَ في بيت عائشة بجانب قبر النبي .
وفاة أبي بكر وخلافة عمر واستكمال المسيرة:
كان أبو بكر حينما اشتد المرض عليه، وشعر بدنوِّ أجله رأى أن يحسم أمر اختيار خلفٍ له؛ خشية انقسام المسلمين بعده، فاختار عمر بن الخطاب خليفة له (13- 23هـ/ 634- 644م)، بعد أن استشار كبار الصحابة، ثم بايعه عامَّة المسلمين بعد ذلك.
فأعاد تنظيم الجيوش, ووُلِّيَ أبو عبيدة بن الجراح القيادة العامَّة لجيوش الشام بدلاً من خالد بن الوليد، فقادا الاثنين معًا معركة اليرموك التي انتهت بانتصار المسلمين.
واصل عمر استكمال الفتوح الإسلاميَّة التي بدأت في عهد الصِّدِّيق فقرَّر توجيه الإمدادات إلى العراق بعدما ضعفت هذه الجبهة برحيل خالد بن الوليد ؛ إذ لم يتمكَّن المثنَّى بن حارثة من الاحتفاظ بما حقَّقه المسلمون من انتصارات، فارتدَّ إلى الحيرة وتحصَّن بها، وكتب بذلك إلى الخليفة، فأرسل عمر أبا عبيد بن مسعود الثقفي في خمسة آلاف مقاتل، وأمره بالسير إلى العراق لقتال الفرس، وكتب في الوقت نفسه إلى المثنى يأمره بالانضمام إليه بمن معه من العَسْكَر.
وبعد عدَّة اصطدامات جانبيَّة مع الفرس في أماكن متفرِّقة، وصل أبو عبيدة إلى قُسِّ النَّاطف -وهو موضع قريب من الحِيرَة على الضِّفَّة الشرقيَّة لنهر الفرات- حيث انضمَّ إليه المثنَّى مع قوَّاته، ودفع الفرس بجيش من أربعة آلاف مقاتل بقيادة جاذويه، وعسكر على الجانب الآخر من النهر .
قتال الفرس:
المعارك الإسلاميةعبر أبو عبيدة واصطدم بالجيش الفارسي في رَحَى معركة عنيفة قُتل خلالها أبو عبيدة، وتراجع المسلمون عَبْر الجسر تحت ضغط المعركة، لكنَّ أحد المسلمين هدم الجسر؛ ليَحُولَ دون انسحابهم، مما أضعف رُوح المسلمين المعنويَّة، وجعلهم عُرضة للقتل بعدما اختلَّ نظام صفِّهم، في هذه الأثناء نفَّذ المثنى خُطَّة تراجع منظَّمة؛ عَبَر النهر، وانحدر مسرعًا إلى الحيرة، ومنها إلى "أُلَيْس"، قرية من قرى الأنبار .
أضاعت معركة الجسر مكاسب المسلمين السابقة، وجعلت الحرب سجالاً، وأضحى موقف المثنَّى دقيقًا، واستمرار الفتح مستحيلاً، من دون دخول إمدادات جديدة إلى ميدان المعركة، فكتب إلى عمر بن الخطاب يطلب منه أن يمدَّه بالمسلمين، تحرَّك الخليفة على وجه السرعة وجهَّز جيشًا بقيادة جرير بن عبد الملك الْبَجَلِي، وأمره بالتوجُّه إلى العراق، حيث انضمَّ إليه المثنى، وقذف الفرس -في هذه الأثناء- بجيش تعداده اثني عشر ألف مقاتل بقيادة مهران بن باذان الهمذاني للتصدِّي للمسلمين، واشتبك الجيشان في رحى معركة قاسية في البويب في شهر رمضان، أسفرت عن انتصار واضح للمسلمين .
تأثَّر الفرس بما حلَّ بهم من هزائم متكرِّرة أمام المسلمين، فثاروا على ملكتهم بوران بنت كسرى أبرويز، ونصَّبوا عليهم يزدجرد بن شهريار بن كسرى، فعمل على توحيد الجبهة الفارسيَّة، وولَّى على قيادة جيوشه رستم بن هرمز .
ولما بلغت عمر هذه الأنباء جهَّز جيشًا جديدًا بلغ تعداده نحو عشرين ألف مقاتل، أمَّر عليه سعد بن أبي وقاص، وأرسله إلى العراق لمواجهة الموقف المتجدِّد, فالتحم الجيشان في رحى معركة (القادسية) في (شهر شعبان 15هـ)، استمرَّت عدَّة أيام، وانتهت بانتصار المسلمين ومقتل رستم .
وتُعَدُّ معركة القادسيَّة نصرًا حاسمًا للمسلمين في صراعهم مع الفرس، وضربة مميتة للحكم الفارسي في العراق، وتَمَكَّن المسلمون من تحطيم القوَّة الميدانيَّة للجيش الفارسي بشكل لن تقوم له قائمة بعدها، وأدَّى مقتل رستم إلى زيادة اليأس والاضطراب في صفوف الفرس، ومن بين نتائج المعركة عودة القبائل العربيَّة الضاربة في الشمال إلى طاعة المسلمين، كما اعتنق بعضها الإسلام.
فتح المدائن:
تابع المسلمون تقدمهم بعد المعركة باتجاه المدائن عاصمة يزدجرد، ولما رأى الملك الفارسي أن المسلمين أصبحوا على أبواب عاصمته عرض عليهم الصلح مقترحًا أن يجلو عن المدائن الدنيا على ضفة دجلة الغربيَّة تاركًا المنطقة للمسلمين، شرط أن يعترفوا بالنهر حدًّا فاصلاً بينهم وبينه، فرفض سعد هذا العرض، وواصل حصاره لبَهُرَسِير حتى دخلها، واندفع المسلمون، فعبروا نهر دجلة إلى المدائن ودخلوها .
لم ييئس يزدجرد بعد سقوط عاصمته، وأرسل جيشًا إلى جلولاء التي تقع على مفترق الطرق إلى أَذْرَبِيجَان والباب والجبال وفارس، فأرسل سعدَ هاشم بن عتبة على رأس قوَّة عسكريَّة، اصطدمت بالجيش الفارسي وأَجْلَتْهُ عن المدينة، ولما بلغت يزدجردَ أنباءُ هذه الهزيمة، وكان في حلوان ، انسحب منها إلى الرِّيِّ في شمال فارس، وأتمَّ سعد فتح باقي مدن العراق مثل: تَكْرِيت، والمَوْصِل، وماسَبَذَان، وقَرْقيسِيَاء، وهِيت، ودَسْت مِيسَان .
ثم رأى عمر بن الخطاب أن يقف بالفتوح عند حدود العراق، غير أن الأحداث عدَّلت من سياسته، فالفرس لم يعترفوا بالهزيمة، فجمعوا قوَّاتهم في الأهواز في الجنوب الشرقي من العراق، واتَّخذوها قاعدة انطلاق لشنِّ هجمات خاطفة على المسلمين، فاضطر المسلمون إلى فتح الأهواز ورامَهُرْمُز والسوس وتُسْتَر؛ لوقف الهجمات الفارسيَّة على صفوفهم وقواعدهم .
نهاوند فتح الفتوح:
جهز يزدجرد جيشًا جديدًا أمَّر عليه الفيرزان، واصطدم بالمسلمين بقيادة النعمان بن مقرِّن المُزَنِيِّ في نَهَاوَنْد من بلاد الجبل جنوبي هَمَذَان، وأسفر الصدام عن انتصار المسلمين رغم استشهاد قائدهم، كما قُتِلَ القائد الفارسي، وتراجعت فلول المنهزمين إلى حصن نهاوَنْد، وامتنعوا فيه، فحاصرهم المسلمون بقيادة حُذيفة بن اليمان الذي خلف النعمان، حتى استسلموا، وصالح أهل الحصن المسلمين على الأمان في (شهر محرم عام 19هـ) .
وتُعَدُّ معركة نهاوَنْد من المعارك الكبرى في تاريخ الفتوح الإسلاميَّة في فارس، وسمَّاها المسلمون "فتح الفتوح"؛ لأنها فتحت الطريق أمامهم للقضاء على الدولة الفارسيَّة نهائيًّا.
فتوح الشام:
أما الجبهة الشاميَّة فقد شَهِدت تطوُّرًا كبيرًا في أحداثها وخاصَّة بعد انهزام الروم في معركة اليرموك، فقد غادر هرقل بيت المقدس لمَّا عَلِم بانتصار المسلمين في اليرموك، واتَّجه إلى حمص؛ ليجعلها مقرًّا لأعماله الحربيَّة.
بينما اتجه المنهزمون إلى فِحْل ، فوجَّه إليها أبو عبيدة بن الجراح قوَّة صغيرة، واتجه هو بجيشه إلى دمشق بناء على مشورة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الذي قال فيها لأبي عبيدة: ابدءوا بدمشق فانهدوا لها؛ فإنها حصن الشام وبيت مملكتهم، واشغلوا عنكم أهلَ فِحْل بِخَيلٍ تكون بإزائهم وأهلَ فلسطين وأهلَ حمص .
ولما وصلت جيوش المسلمين إلى دمشق نزل عمرو بن العاص بباب الفراديس، ونزل شُرَحْبِيل بن حَسَنَة بباب تُومَاء، وقيس بن هبيرة بباب الفرج، وأبو عبيدة بباب الجبابية، وبقي خالد بن الوليد بالباب الشرقي، وشدَّد المسلمون الحصار على أهل دمشق سبعين يومًا، ولم تُجْدِ منعةُ حصونهم وما عليها من مجانيق وغيرها من آلات الدفاع نفعًا، فمنع المسلمون المدد من أن يصل إليهم، ونفدت المؤن من عندهم، ونفد صبرهم، وانكسرت حميتهم، وتمَّ للمسلمين فتح هذه المدينة.
وبعد فتح دمشق (15 من رجب 14هـ) سار الجيش إلى فِحْل، فأعاد أبو عبيدة تنظيم الجيش مرَّة أخرى، وكان الروم قد جعلوا بينهم وبين المسلمين خطًّا مانعًا من الوَحْل؛ حتى يُعيق المسلمين عن التقدُّم, ولكن انتهت المعركة بهزيمة ساحقة جعلت من هذا الوَحْل وبالاً عليهم, فبعد مقتل أميرهم لم يستطيعوا الفِرَار من أرض المعركة المليئة بهذا الوَحْل, ولم يفلت منهم إلا الشريد، وانصرف أبو عبيدة وخالد إلى حمص، فاستوليا عليها ثم على حَمَاة، وقِنِّسْرِينَ واللاذقيَّة وحَلَب .
أما شُرَحْبِيل وعمرو بن العاص فقد قصدوا بَيْسَان، فحاصروا أهلها أيَّامًا وأرغموهم على طلب الصلح والأمان، ولمَّا عَلِمَ أهل طبرية بما حلَّ بأهل فِحْل وبَيْسَان طالبوا بعقد صلح مع المسلمين، وكتب عمرو بن العاص إلى عمر بالفتح.
أمَّا فلسطين في ذلك الوقت فكان عليها والٍ روماني يُدعى (أرطبون)، وكان من أدهى القوَّاد الرومان, وقد أقام جندًا كثيرًا ببيت المقدس -إيلياء- والرملة باعتبارهما أهمّ المدن الفلسطينيَّة، على حين عسكر بجنده الكثيف بأَجْنَادَيْنِ.
ولما رأى عمرو أن القوَّة التي مع الروم أقوى مما كان يظنُّ، كتب إلى عمر بن الخطاب، فقال عمر: قد رمينا أرطبون الروم بأرطبون العرب، فانظروا عمَّا تنفرج. وكتب إلى القوَّاد أن يسيروا إلى قيسارية والرملة وبيت المقدس؛ ليشغلوا الروم عن عمرو .
سار عمرو إلى أَجْنَادَيْنِ (15هـ)، واقتتل المسلمون والروم قتالاً شديدًا -لا يقلُّ عن قتال اليرموك- فانهزم أرطبون بعد منازلته لعمرو بن العاص, فارتدَّ بالفارِّين إلى بيت المقدس.
وكان من أثر انتصار عمرو على أرطبون أن أَذْعَن للمسلمين كل مَن كان بـيافا، ونابلس، وعسقلان، وغزة، والرملة، وعكا، وبيروت، ولُدّ، والجبلة، وفُتِحَت أبوابها لهم من غير قتال إلا بيت المقدس.
ثم قصد عمرو بن العاص بعد ذلك بيت المقدس، وضرب حولها حصارًا شديدًا, وأخذ يُراسل الأرطبون مراسلة ودِّيَّة، ويطلب إليه تسليم المدينة، والأرطبون يأبى ذلك، واستمرَّ هذا الحصار أربعة أشهر لم ينقطع فيها القتال, والمسلمون صابرون على البرد والثلج والمطر، إلى أن يئِس الروم من مقاومة حصار المسلمين لمدينتهم، فقرَّر بِطْرِيقهم (صفرونيوس) القيام بمحاولة أخيرة, وكتب إلى عمرو بن العاص -قائد جيش المسلمين- رسالة يُغريه فيها بفكِّ الحصار؛ نظرًا لاستحالة احتلال المدينة.
أمير المؤمنين يتسلم مفاتيح بيت المقدس:
لما اشتدَّ حصار المسلمين للمدينة أيقن أهلها أن فتح المسلمين لها مسألة وقت؛ لذلك أرسل أرطبون إلى عمرو رسالة يطلب فيها أن يتسلَّم أمير المؤمنين مفاتيح بيت المقدس بنفسه، فأرسل عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب، فخرج في مَدَدٍ قاصدًا بيت المقدس –بعد استشارة الصحابة- فصالحوه على الجزية، وفتحوها له، وكان ذلك في أوائل سنة 16هـ.
ثم كتب كتاب الأمان لأهل بيت المقدس قال فيه: "بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان، أعطاهم أمانًا لأنفسهم وأموالهم، ولكنائسهم وصلبانهم، وسقيمها وبريئها وسائر ملَّتها، أنه لا تسكن كنائسهم ولا تُهدم، ولا يُنتقص منها، ولا من حيِّزها ولا من صليبهم، ولا من شيء من أموالهم، ولا يُكرهون على دينهم ولا يُضارُّ أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود، وعلى أهل إيلياء أن يُعطوا الجزية كما يُعطي أهل المدائن، وعليهم أن يُخْرِجوا منها الروم واللصوت (اللصوص)، فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله، حتى يبلغوا مأمنهم، ومَن أقام منهم فهو آمن، وعليه مِثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومَن أحبَّ من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم، ويخلِّي بِيَعهم وصُلُبهم، فإنهم آمنون على أنفسهم وعلى بِيَعهم وصُلُبهم، حتى يبلغوا مأمنهم، ومَن كان بها من أهل الأرض قبل مقتل فلان؛ فمن شاء منهم قعد، وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن شاء سار مع الروم، ومن شاء رجع إلى أهله، فإنه لا يُؤخذ منهم شيء حتى يُحصد حصادهم، وعلى ما في هذا الكتاب عهدُ الله وذمَّةُ رسوله وذمَّة الخلفاء وذمَّة المؤمنين إذا أعطَوا الذي عليهم من الجزية، شهد على ذلك خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاوية بن أبي سفيان" .
فكان الصلح الذي أبرمه عمر يشهد شهادة حقٍّ بأن الإسلام دين تسامح وليس دين إكراه، وهو شاهد عَدْل بأن المسلمين عاملوا النصارى الموجودين في القدس معاملة لم تخطر على أذهانهم.
أمير المؤمنين يصلي بالمسجد الأقصى:
المسجد الأقصىأراد عمر بن الخطاب الصلاة بالمسجد الأقصى، فسأل كعبًا: أين ترى أن أُصَلِّيَ؟ فقال: إن أخذت عنِّي، صليت خلف الصخرة؛ فكانت القدس كلُّها بين يديك. فقال عمر: ضاهيت اليهوديَّة، لا، ولكن أُصَلِّي حيث صلَّى رسول الله . فتقدَّم إلى القبلة فصلَّى، ثم جاء فبسط ردائه، فكنس الكناسة في ردائه، وكنس الناس .
تأمين الفتوحات الشامية:
ظلَّ عمرو بن العاص مع جيشه في فلسطين؛ للقضاء على القوَّة التي كانت لا تزال مع قسطنطين بن هرقل، فسار إلى قيسارية (قيصرية)؛ حيث عسكر قسطنطين بجيش كثيف، وقد تغلَّب على هذا الأمير عوامل الخوف حين علم بسقوط طبريَّة وهروب أبيه من أنطاكية، وتوهَّم أن عمرو بن العاص اخترق أسوار المدينة، فانسلَّ من قصره هو وأسرته خِفْيَة، ورحل إلى القسطنطينية كما رحل أبوه مِن قبلُ، فلمَّا علموا بهروب أميرهم سلَّموا لعمرو.
عام الطاعون:
شهدت خلافة عمر بن الخطاب انتشار وباء الطاعون بصورة بشعة في بلاد الشام عام (18هـ)، وعُرف هذا الطاعون بطاعون عَمْواس، نسبة إلى قرية من قرى فلسطين، وقد تسبَّب هذا الطاعون في وفاة خمسة وعشرين ألف شخص، من بينهم بعض كبار الصحابة كأبي عُبَيْدَة، ومُعَاذ بن جبل، وشُرَحْبِيل بن حَسَنَة، وسُهَيْل بن عمرو، ويزيد بن أبي سفيان، وعامر بن غيلان الثقفي، وغيرهم .
فتح مصر:
عندما انتهى المسلمون من فتح بلاد الشام طلب عمرو بن العاص من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب السير إلى مصر لفتحها، وقد استطاع عمرو إقناع عمر بن الخطاب بفتح مصر، حتى لا تكون أرض الشام معرَّضة لخطر مهاجمتها من الروم شمالاً، وجنوبًا من مصر عن طريق سيناء البريِّ، وغربًا من بحر الروم، وبخاصة أن (أرطبون) -قائد الروم في فلسطين- قد فرَّ من فِلَسْطِينَ ولحق بمصر، وحشد جنود الروم في مصر لقتال المسلمين لاستعادة بيت المقدس، فرأى عمرو بن العاص أن على المسلمين ألاَّ يُضَيَّعوا الوقت سُدًى دون مسوِّغ، وأن يُوقِعوا بالأرطبون وقوَّات الروم قبل أن يستفحل أمرهم، وقد أيَّده الفاروق عمر بن الخطاب، المعروف بتفكيره الحصيف المتميِّز ، ثم أمدَّه بالزُبَيْرِ بن العوَّام، ومعه بُسر بن أبي أرطاة، وخارجة بن حذافة، وعمير بن وهب الجُمَحِي، فاتجه عمرو إلى حصن بابليون، وضيَّق عليه الخناق بضعة أشهر، وعندما طال وقت القتال، أرسل المقوقس برسالة إلى عمرو يتهدَّده فيها ويتوعَّده؛ إذ الروم مؤيِّدُون للمقوقس، وهم قوَّة معه على قوَّته في مواجهة عمرو ومَن معه، لكنَّ عمرو بن العاص أرسل للمقوقس قائلاً: "ليس بيني وبينكم إلا إحدى ثلاث خصال: إمَّا أن دخلتم في الإسلام فكنتم إخواننا، وكان لكم ما لنا، وإن أبيتم فأعطيتم الجزية عن يدٍ وأنتم صاغرون، وإما أن جاهدناكم بالصبر والقتال، حتى يحكم الله بيننا وهو أحكم الحاكمين" .
وبعد أن تبيَّن للمقوقس عَجْزَ البيزنطيين عن الوقوف ضدَّ المسلمين، وافق على عقد الصلح بشرط موافقة الإمبراطور عليه، ومع رفض الإمبراطور البيزنطي للصلح مع المسلمين، وحثِّه المقوقس على محاربتهم، هاجم المسلمون الحصن بالمجانيق، واستطاع الزبير بن العوام أن يدخل الحصن ببسالة فائقة منه، وتبعه المسلمون عام (20هـ/ 641م)، فاضطر المقوقس إلى عقد معاهدة مع عمرو بن العاص ، وبمقتضى هذه المعاهدة دخل كثير من المصريين في الإسلام، ومَن بقي منهم على دينه كان يدفع الجزية التي أقرَّها الصلح, ولأن الشعب المصري عانى كثيرًا من ظلم الرومان فقد رحَّب بالمسلمين؛ لما يحملونه من قيم العدل والمساواة .
ثم أرسل عمرو بن العاص قوَّةً إلى الصعيد بإمرة عبد الله بن سعد بن أبي سرح بِنَاءً على أوامر الخليفة ففتحها، وكان الوالي عليها، كما أرسل خارجة بن حُذافة إلى الفَيُّوم، ففتحها وصالح أهلها، وأرسل عُمَيْرَ بن وهب الجُمَحِيَّ إلى دِمْيَاط وتِنِّيس وما حولهما؛ فصالح أهل تلك الجهات، ثم سار عمرو بن العاص إلى الغرب، ففتح بَرْقَةَ وصالح أهلها، وأرسل عقبة بن نافع ففتح زَوِيلَةَ، واتجه نحو بلاد النوبة ففتحها فتمَّ بذلك فتح مصر .
إرساء مؤسسات الخلافة:
وفي عهد عمر اتَّسعت رقعة الدولة الإسلاميَّة اتِّساعًا كبيرًا، فكان لا بُدَّ لهذه الدولة من تنظيم حتى تستمرَّ، فحدَّد عمر نظام القضاء وأصوله في العهد الذي ولّى بموجبه أبا موسى الأشعري، وقد استلزمت الفتوح الإسلاميَّة التوسُّع في نظام القضاء، فكان يُرسل إلى كل مصرِ من الأمصار قاضيًا، يختاره ليتولى الحكم في المسائل الدينيَّة أو الدنيويَّة بين أهل المصر، وليُشرف على الفيء والغنائم، ثم خصَّص رجلاً آخر يقوم بتقسيم الغنائم، ويُعَدُّ عمر أوَّل مَن فصل السلطة القضائيَّة عن سلطة الحُكَّام، فكان القضاة يُعَيَّنُون منه مباشرة، ويتَّصلون به فيما يرَوْن من شئون المسلمين، ودون تدخُّل من وُلاة الأقاليم، وأوجد عمر إلى جانب القضاء ما يشبه ديوان المحاسبة، فكان لا يُصدر قرارًا بمعاقبة أحد من وُلاته أو عمَّاله إلا بعد تحقيق دقيق .
إنشاء الدواوين:
كان إنشاء الدواوين ضرورة لا بُدَّ منها؛ نظرًا لتدفُّق الأموال بكثرة على المدينة، بفعل اتِّساع رقعة الفتوحات, مما دفع عمر إلى التفكير في وضع نظام لإحصائها وتوزيعها، فأقام عمر بن الخطاب تنظيم الديوان في عام (20هـ) على ثلاثة أسس هي: درجة القرابة والنسب من الرسول, والسابقون الأوَّلون في الإسلام, ودرجة الجهاد والبلاء والشجاعة والإقدام في سبيل نشر الإسلام .
كما أنشأ عمر "بيت المال" لحفظ الأموال الفائضة عن أعطيات الجند، والإنفاق الضروري منها على مصالح المسلمين، وكانت موارده متعدِّدة الجوانب أساسها الزكاة والصدقات والجزية والعُشور والفائض من الخراج .
استشهاد الفاروق وخلافة عثمان:
ظلَّت الدولة الإسلاميَّة في عهده في قمَّة ازدهارها وتألُّقها، حتى جاء اليوم الموعود (4 من ذي الحجة عام 23هـ) الذي خرج عمر ليؤُمَّ الناس لصلاة الفجر، حتى إذا انتظم جمع المصلِّينَ، دخل في تلك اللحظة رجل ظهر فجأة بجانبه، وطعنه عدَّة طعنات بخنجر مسموم، كان هذا الرجل أبا لؤلؤة فيروز، غلام المغيرة بن شعبة، وهو مِن سَبْي فارس، وتُوُفِّيَ عمر بعد ثلاثة أيام، ودُفِنَ بجوار قبر النبي وأبي بكر الصِّدِّيق .
انتخاب الخليفة:
استمرَّ اهتمام الفاروق بالأُمَّة ووَحدتها حتى اللحظات الأخيرة من حياته، فابتكر طريقة جديدة لانتخاب الخليفة؛ بأن جعل الشورى في عدد محصور من خيرة الصحابة، كلهم شهدوا بدرًا، ويصلحون لتولِّي أمر المسلمين, فعيَّنَ الفاروق ستَّة رجال من أفضل صحابة رسول الله مكانة، حتى يتشاور المسلمون في اختيار أحدهم خليفة، وهم: عثمان بن عفان, وعلي بن أبي طالب, والزبير بن العوام, وطلحة بن عبيد الله, وسعد بن أبي وقاص, وعبد الرحمن بن عوف ، وأمرهم أن يجتمعوا في بيت أحدهم ويتشاوروا، وفيهم عبد الله بن عمر يحضر معهم مشيرًا فقط، وليس له من الأمر شيء .
كما أمر صهيبًا الرومي أن يُصَلِّيَ بالناس أثناء التشاور، حتى لا يُوَلِّيَ إمامةَ الصلاة أحدًا من الستة؛ فيصبح هذا ترشيحًا من عمر له بالخلافة، وأمر المقداد ابن الأسود وأبا طلحة الأنصاري أن يراقبا سير الانتخابات .
وحدَّد الفاروق ثلاثة أيام لاختيار الخليفة الجديد -وهي مدَّة كافية- ولا يَزيدون عليها؛ حتى لا يحدث شقاق وخلاف بين المسلمين، ولذلك قال عمر لهم: لا يأتي اليوم الرابع إلا وعليكم أمير .
مبايعة عثمان:
استقرَّ الأمر على مبايعة عثمان خليفة للمسلمين، وأُخِذَت البيعة في المسجد النبوي في شهر ذي الحجة (23هـ), إذ أقبل عبد الرحمن بن عوف -وقد اعتمَّ بالعِمَامة التي عمَّمه بها رسول الله- بعدما أرسل إلى من كان حاضرًا من المهاجرين والأنصار وأمراء الأجناد، ومنهم: معاوية أمير الشام، وعمير بن سعد أمير حمص، وعمرو بن العاص أمير مصر، فاجتمع رجال الشورى عند المنبر فبايعه عبد الرحمن أوَّلاً, ثم بايعه المهاجرون والأنصار وأمراء الأجناد والمسلمون، ويُرْوَى أن علي بن أبي طالب أوَّل من بايع بعد عبد الرحمن بن عوف .
وقد شهدت خلافته وخاصَّة في العشر سنوات الأولى العديد من الفتوحات التي أرست دعائم الدولة الإسلاميَّة، وخاصَّة بعدما انتشر خبر وفاة عمر بن الخطاب ، فكان ذلك الخبر بمنزلة نقطة فاصلة في حياة الفرس والروم وبعض البلاد التي تمَّ فتحها في عهده، حيث بدءوا التفكير في نقض العهود التي أبرموها مع المسلمين، وفكَّروا في استرداد مُلْكِهم.
حيث بدأت جيوش الروم في الإسكندريَّة التحرُّك بمعاونة القوَّة البَحْرِيَّة المرابطة لهم في الإسكندريَّة, فنقضت الإسكندريَّة عهدها عام (25هـ)، فسار إليها عمرو بن العاص، وقاتل أهلَها، وأجبرهم على الخضوع، والعودة إلى عهدهم .
الفتوحات في خلافة عثمان بن عفان:
فتح إفريقية:
كان عمر بن الخطاب قد منع عمرو بن العاص من الانسياح في إفريقيَّة بعدما فتح طرابلس، إلا أن عثمان بن عفان قد سمح بذلك، وأرسل عبد الله بن سعد بن أبي سرح على رأس قوَّة، فاجتاز طَرَابُلُس، واستولى على سفن للروم كانت راسية هناك على الشاطئ، ثم واصل سيره في إفريقيَّة، والتقى بجيوش للبيزنطيين عام (27هـ) في (سُبَيْطِلَة) في جنوب غربي القيروان التي لم تكن قد أُسِّسَت بعدُ، وحقَّق المسلمون فيها انتصارًا ساحقًا, إلا أن عبد الله بن سعد بن أبي سرح قد اضطر إلى عقد معاهدة للصلح مع البيزنطنيين مقابل جزية سنويَّة يدفعونها على أن يخلي إفريقيَّة، حيث اضطر للعودة إلى مصر لمواجهة النوبة، الذين هدَّدوا مصر من ناحية الجنوب .
إنشاء الأسطول الإسلامي:
ظلَّ معاوية يُقنع عثمان بضرورة إنشاء أسطول قويٍّ، قادر على غزو البحر؛ لمواجهة التهديدات الروميَّة، فأَذِنَ له قائلاً: لا تنتخب الناس، ولا تقرع بينهم، خيِّرهم، فمن اختار الغزو طائعًا فاحمله وأَعِنْهُ. ففعل ذلك، واستعمل على البحر عبد الله بن قيس الجاسي حليف بن فزارة .
ثم غزا معاوية قُبْرُص ، وصالح أهلها على سبعة آلاف دينار يؤدُّونها إلى المسلمين كل سنة وذلك عام (28هـ), بينما غزا حبيب بن مسلمة بعض الحصون في الشام، والتي كانت لا تزال بيد الروم وذلك عام (28هـ) .
وفي عام (31هـ) جَرَت معركة بحْرِيَّة حاسمة بين المسلمين والروم تُعْرَف بـ (ذات الصواري)، وكان قائد المسلمين أمير مصر عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وقائد الروم الإمبراطور قسطنطين الثاني، الذي كان يقود أكثر من خمسمائة سفينة، ومع ذلك فقد فرَّ من المعركة، وهُزِم الروم شرَّ هزيمة .
وفي عام (33هـ) غزا معاوية بن أبي سفيان "حصن المرأة" من أرض الروم قرب ثغر ملاطية .
زيادة رقعة الخلافة الإسلامية:
عندما نقضت إفريقيَّة العهد عام (33هـ) سار إليها عبد الله بن سعد بن أبي سرح (أمير مصر) ففتحها ثانية، وأَجْبَر أهلها على الخضوع والعودة إلى دفع الجزيرة بعدما منعوها .
أما الجبهة الغربيَّة فكانت غزوات أهل الكوفة جهة الرِّيِّ وأَذْرَبِيجَان, فقد صار إلى الثغرَيْنِ عَشَرَة آلاف مقاتل من أهل الكوفة، ستَّة آلاف تَكُونُ بأَذْرَبِيجَان، وأربعة آلاف بالرِّيِّ، وكان بالكوفة في ذلك الوقت أربعون ألف مقاتل، وكان يذهب لهذين الثغرين منهم عشَرة آلاف مقاتل كلَّ سنة، فكان الرجل يُصِيبه في كل أربعة سنين غزوة، وكانت هذه الغزوات لتأييد الفتح الإسلامي في تلك البلاد والمحافظة على الثغور من أن ينتابها عدو، وإعادة مَن شقَّ العصا إلى الطاعة .
ففي عهد إمارة الوليد بن عقبة على الكوفة (25 - 29هـ)، انتقضت أَذْرَبِيجَان العهد، ومنعت ما كانت صالحت عليه، فغزاها الوليد حتى رضيت بأن تؤدِّيَ ما كانت صُولحت عليه، وسَيَّر سلمان بن ربيعة الباهلي إلى أرْمِينِيَة، فشتَّت شمل المجتمعين بها ممن أراد نقض الطاعة .
وفي عهد إمارة سعيد بن العاص فُتِحَت طَبَرِستان حيث سار إليها بجند كثيف، فيه الحسن والحسين رضي الله عنهما ابنا عليٍّ ، والعبادلة: أبناء العباس، وعمر بن الخطاب، وعمرو بن العاص، والزبير، وحذيفة بن اليمان، وغيرهم، فقاتل أهلَ طبرستان حتى طلبوا الصلح .
كما أوغل عبد الرحمن بن ربيعة الباهلي سنة (32هـ) في بلاد الخَزَر -وهي بلاد الترك خلف باب الأبواب المعروف بـ"الدربند"- حتى وصل بَلَنْجَر، وهي أكبر مدنهم خلف باب الأبواب، ولكنَّ الترك تجمَّعوا بكثرة بالغة، فأُصيب عبد الرحمن بن ربيعة، وانهزم المسلمون، فتفرَّقوا فرقتين: فرقة عادت فقاتلت مع سلمان بن ربيعة، الذي كان قد أُرسل مددًا لأخيه فنَجَتْ، وفرقة أخرى أخذت طريق جيلان وجرجان، وجَعَل على ثغر الباب عبدُ الرحمن أخاه سلمان .
أما البصرة فكانت غزواتها في بلاد فارس وخراسان وثغر السند:
ففي عهد إمارة عبد الله بن عامر: انتقض أهل فارس العهد، وقتلوا أميرهم عبيد الله بن مَعْمَر، فسار إليهم ابن عامر، وأوقع بهم وقعة شديدة.
وفي عهد إمارة ابن عامر على البصرة قُتِلَ يزدجرد آخر ملوك الفرس سنة (31هـ)، وبموته انتهت الدولة الساسانية .
وفي سنة (31هـ) نقضت أهل خراسان عهدها فخرج إليهم ابن عامر في جيش كثيف، فلما وصل الطَّبَسَيْنِ، وهما بابا خراسان، تلقَّاه أهلها بالصلح، ثم سار إلى قُوهِسْتَان، فقاتل أهلَها حتى طلبوا الصلح فصالحهم، ثم قصد نَيْسَابور فصالحهم، ثم وجَّه الأحنف بن قيس إلى طَخَارستان -ولاية واسعة من نواحي خراسان- ثم إلى مَرْوِ الرَّوْذِ، فلقيته جموع فهزمها، وكانت للأحنف فتوح كثيرة في تلك الجهات، ثم صار إلى بَلْخ فصالحه أهلها، ثم ذهب إلى خُوَارِزم، فاستعصت عليه فعاد عنها، ولما تمَّ لابن عامر هذه الفتوح عاد إلى البصرة .
وهكذا فقد كانت الفتوحات أيام عثمان بن عفان واسعة؛ إذ أضافت بلادًا جديدة في إفريقيَّة وقُبْرُص وأرْمِينِيَة، وأَجْبَرَت مَن نَقَضَ العهد إلى الصلح من جديد في فارس، وخراسان، وباب الأبواب، وضمَّت هناك -إضافةً إلى ذلك- فتوحات جديدة في بلاد السند، وكَابُل، وفَرْغَانَة.
مصحف عثمان:
مصحف عثمانمن أعظم أعمال عثمان أنه جمع المسلمين على مصحف واحد، فعن أنس بن مالك: أن حُذيفة بن اليمان قَدِمَ على عثمان، وكان يغازي أهل الشام في فتح أرْمِينِيَة وأَذْرَبِيجَان مع أهل العراق، فأفزع حذيفةَ اختلافُهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين، أدرك هذه الأُمَّة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى. فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسَخْهَا في المصاحف ثم نردُّها إليك. فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيدَ بن ثابت، وعبدَ الله بن الزُبَيْر, وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم. ففعلوا، حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف ردَّ عثمان الصحف إلى حفصة، فأرسل إلى كلِّ أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق .
فكان السبب الحامل لعثمان على جمع القرآن للمرَّة الثانية -مع أنه كان مجموعًا مرتَّبًا في صحف أبي بكر الصِّدِّيق- إنما هو اختلاف قرَّاء المسلمين في القراءة اختلافًا أَوْشَك أن يؤدِّيَ بهم إلى أخطر فتنة في كتاب الله تعالى، وهو أصل الشريعة ودِعَامة الدين، وأساس بناء الأُمَّة الاجتماعي والسياسي والخُلُقي، حتى إن بعضهم كان يقول لبعض: إن قراءتي خير من قراءتك. فأفزع ذلك حذيفة، ففزع فيه إلى خليفة المسلمين وإمامهم, وطلب إليه أن يُدرك الأُمَّة قبل أن تختلف فيستشري بينهم الاختلاف، ويتفاقم أمره، ويعظم خطبه، فيُمَسُّ نصُّ القرآن، وتُحَرَّف كلماتُه وآياته عن مواضعها، كالذي وقع بين اليهود والنصارى من اختلاف كلِّ أُمَّة على نفسها في كتابها.
ولم يُقْدِم عثمان على هذه الخطوة إلا بعد أن جمع المهاجرين والأنصار وشاورهم في الأمر، وفيهم أعيان الأُمَّة وأعلام الأئمة وعلماء الصحابة، وفي طليعتهم علي بن أبي طالب ، وعرض عثمان هذه المعضلة على صفوة الأُمَّة وقادتها الهادِينَ المهديِّين، ودارسهم أمرها ودارسوه، وناقشهم فيها وناقشوه، حتى عَرَف رأيهم وعَرَفوا رأيه، فأجابوه إلى رأيه في صراحة لا تجعل للرَّيْب إلى قلوب المؤمنين سبيلاً، وظهر للناس في أرجاء الأرض ما انعقد عليه إجماعهم، فلم يُعرف قط يومئذ لهم مخالف، ولا عُرف عند أحد نكير، وليس شأن القرآن الذي يخفى على آحاد الأُمَّة فضلاً عن علمائها وأئمتها البارزين .
وبعث مع كل مصحف مَن يُرشد الناس إلى قراءته، بما يحتمله رسمه من القراءات ممَّا صحَّ وتواتر، فكان عبد الله بن السائب مع المصحف المكِّي، والمغيرة بن شهاب مع المصحف الشامي، وأبو عبد الرحمن السلمي مع المصحف الكوفي، وعامر بن قيس مع المصحف البصري، وأمر زيد بن ثابت أن يُقرئ الناس بالمدينة .
الفتنة:
بدأت بوادر الفتنة في الظهور في أواخر عهده على يَدِ يهودي يُسَمَّى "عبد الله بن سبأ"، وكان أوَّلُ ظهوره في اليمن عام (30هـ), حيث أظهر الإسلام, ولكنَّه طعن فيه بما تَلقَّاهُ من تعاليم المجوسية, فأخذ يتنقَّل بين بلاد المسلمين ناشرًا أفكاره وآراءه, فذهب إلى الحجاز, ومنها إلى العراق, فالبصرة فتبعه الأشتر النَّخَعِيُّ, وحُكَيْم بن جَبَلَة, ثمَّ انتقل ابنُ سبأ إلى مصر، ووجد في مصر مناخًا مناسبًا لأفكاره؛ لأن معظم المجاهدين خرجوا إلى الفتوحات في ليبيا, وآخرين في السودان، ومَن كان موجودًا إنما هم قِلَّة من المسلمين, فاستطاع ابن سبأ أن يجمع حوله قِلَّةً من الناس, واستقرَّ في مصر, وكان لدى ابن سبأ عدد من الأفكار والعقائد الأساسيَّة التي كان يبثُّها في أتباعه, ويدعو إليها وينشرها, فمن ذلك: (عقيدة الرجعة) المأخوذة عن المجوسية, والتي يدَّعي فيها عودة محمد بعد موته, وكذلك (عقيدة الوصاية)، ويزعم فيها أنَّ أمر النبوَّة منذ آدم u وحتى محمد بالوصاية، ويدَّعي فيها أيضًا أن النبي قد أوصي بالأمر لعليٍّ , وأَخَذ يُرسل بذلك إلى أهل الأمصار المختلفة .
فتبعه المنافقون والطـامعون في الإمـارة والموتورون، الذين أقام الخليفة الحدَّ على أحدهم, فقاموا ضدَّه, وتبعه كذلك الجهلة من المسلمين، فبدأ هؤلاء الطعن في الأمراء, ثم وصل إلى الطعن في الخليفة نفسه, وأعدَّ ابن سبأ قائمة بالطعون في عثمان ، وأرسلها إلى الأمصار والبُلدان, ووصل الأمر إلى أمراء المسلمين, وإلى الخليفة , فأرسل مجموعة من الصحابة يفقِّهون الناس, ويعلِّمونهم, ويدفعون عنهم هذه الشبهات, فأرسل محمد بن مَسْلَمَة إلى الكوفة, وأسامة بن زيد إلى البصرة, وعمَّار بن ياسر إلى مصر, وعبد الله بن عمر إلى الشام .
وكان أهل الشام أقلَّ الناس تأثُّرًا بهذه الفتنة، لأن معاوية كان يَسُوس الناس بحكمة وحلم، فأحبَّه الناس حبًّا شديدًا, وظهرت الفتنة لأوَّل مرَّة بصورة علنية في الكوفة سنة (33 هـ)، فقد جمع الأشتر النَّخَعي حوله مجموعة من الرجال تسعة أو عشَرة, وبدأ يتحدَّث جهارًا نهارًا عن مطاعن يأخذها على عثمان ، كلها مطاعن زورٍ وبهتان .
فأرسل عثمان إلى وُلاته كي يستشيرهم في أمر هذه الفتنة, فأرسل إلى معاوية بن أبي سفيان واليه على الشام, وإلى عبد الله بن عامر واليه على البصرة, وسعيد بن العاص واليه على الكوفة, وعبد الله بن أبي سرح واليه على مصر, وجاءوا جميعًا إلى عثمان بالمدينة, وبعد أن عرض عليهم الموقف فأشار عبد الله بن عامر أن يشغل الناس بالجهاد حتى لا يتفرَّغوا لهذه الأمور, وأشار سعيد بن العاص باستئصال شأفة المفسدين وقطع دابرهم, وأشار معاوية بأن يُرَدَّ كلُّ والٍ إلى مصره فيكفيك أمره, أما عبد الله بن أبي سرح فكان رأيه أن يتألَّفهم بالمال، وقد جمع عثمان في معالجة هذا الأمر بين كل هذه الآراء, فأخرج بعض الجيوش للغزو, وأعطى المال لبعض الناس, وكلَّف كلَّ والٍ بمسئوليَّته عن مصره, ولكنه لم يستأصل شأفتهم .
اشتعال الفتنة:
أراد رءوس الفتنة أن يُشعِلوا الأمر أكثر وأكثر, حتى يجتثُّوا الدولة الإسلاميَّة من جذورها, فبدءوا يُكثرون الطعن على عثمان، ويكتبون هذه المطاعن المكذوبة والمفتراة, ويُرسلونها إلى الأقطار مُوَقَّعَةً بأسماء الصحابة افتراء على الصحابة, فيُوَقِّعُون الرسائل باسم طلحة بن عبيد الله, والزبير بن العوام, والسيدة عائشة.
وكان الثوَّار قد جمعوا أنفسهم من البصرة, والكوفة, ومصر, وبدءوا في التوجُّه ناحية المدينة المنوَّرة, واتَّفقوا على عزل عثمان ، واختلفوا فيمن يتولَّى الخلافة بعده, فأرادها أهل مصر لعليِّ بن أبي طالب ، في حين أرادها أهل الكوفة للزبير بن العوام ، وأرادها أهل البصرة لطلحة بن عبيد الله، فلمَّا وصلوا المدينة -وعلم المسلمون بقدومهم لهذا الأمر- أرسل عثمان لكلِّ فرقة منهم مَن أرادوه خليفة, فذهب عليٌّ لفرقة أهل مصر فزجرهم وعنَّفهم, وقال لهم: لقد علم الصالحون أنكم ملعونون على لسان محمد ، فارجعوا لا صبَّحكم الله .
وفعل مثله صاحباه طلحة والزبير رضي الله عنهما, فطلب الثوَّار من الثلاثة مقابلة الخليفة لعرض شكواهم عليه, فدخلوا المدينة, والْتَقَوْا بأمير المؤمنين عثمان , وأخذوا يُناقشونه فيما أخذوه عليه, ثم أخذوا يَعُدُّونَ عليه المآخذ, وهو يردُّ عليهم ويفنِّد مزاعمهم.
وبعد أن انتهَوْا من حوارهم قال لهم عثمان : ماذا تريدون؟ قالوا: المنفيُّ يعود, والمحروم يُعطَى, وتَسْتَعْمِلُ ذوي الأمانة والقوَّة، وأن تَعْدل في القسمة. فوافقهم على ما قالوا، وكتب ذلك في كتابٍ, وشرط عليهم عثمان ألاّ يشقُّوا له عصًا, ولا يُفَرِّقوا جماعة المسلمين, وأعطَوْه عهدًا بذلك، وخرجوا من المدينة راضِين، وظنَّ المسلمون في المدينة أن الفتنة قد خمدت, وبات المسلمون ليلة سعيدة بعد خِضَمِّ أحداث عظيمة استمرَّت شهورًا.
حصار عثمان:
ولكن الفتنة لم تُخْمَد بتحقيق المطالب؛ ذلك لأن قادة الفتنة لم يكونوا في الحقيقة طالبين للحقِّ, وإنما متآمرين للفتنة, وللتفريق بين المسلمين, من هنا ما إن بدأت الفِرَقُ في العودة حتى انتشرت بعض الرسائل الملفَّقة, منها رسالة مع الفرقة القادمة من مصر, بأن عثمان أَمَر بقتل محمد بن أبي بكر , وأَمَر والِيَه على مصر بقتل رءوس الفتنة, فعاد رءوس الفتنة إلى المدينة من جديد، وحاصروا عثمان في بيته, وعندما وجد عثمان أن الأمر قد وصل إلى هذا الحدِّ, وأن اللين لن يُجدي مع هؤلاء؛ كتب رسائل إلى ولاته في الأمصار أن يرسلوا إليه بالجيوش لحلِّ هذه الأزمة, فكتب إلى معاوية بن أبي سفيان بالشام, وإلى أبي موسى الأشعري بالكوفة، وإلى والي البصرة, ولكن فكرة قتل الخليفة لم تكن قد ظهرت بعدُ, بل ما يطلبونه هو عزله, ولم يُصرِّحوا بكلمة القتل مطلقًا .
ولكنَّهم اقتحموا داره ، فدخل عليه كنانة بن بشر -الملعون- وحمل السيف وضربه به، فمات شهيدًا يوم 18 من ذي الحجة 35هـ .
خلافة علي بن أبي طالب:
خلافة علي بن أبي طالبظنَّ المتآمرون أنهم قضَوْا على الدولة الإسلاميَّة العملاقة، ولكن خاب ظنُّهم بعدما تمَّت بيعة عليٍّ بالخلافة عقب استشهاد عثمان بن عفان, وبعد إلحاح شديد من الصحابة؛ حتى يَقْبَل قيادة الأُمَّة في مثل هذا الوقت العصيب, فذهب بعض الصحابة إليه، فقالوا: إن هذا الرجل 90 قد قُتل، ولا بُدَّ للناس من إمام، ولا نجد أحدًا أحقَّ بها منك؛ أقدم مشاهد، ولا أقرب من رسول الله . فقال عليٌّ: لا تفعلوا فإني وزير خير من أمير. فقالوا: لا والله ما نحن بفاعلين حتى نبايعك. قال: ففي المسجد فإنه ينبغي بيعتي ألاّ تكون خَفِيًّا، ولا تكون إلا عن رضا المسلمين 91 .
فقال عبد الله بن عباس: فلقد كرهت أن يأتي المسجد كراهية أن يُشْغَبَ 92 عليه، وأبى هو إلاّ المسجد، فلما دخل المسجد جاء المهاجرون والأنصار فبايعوا وبايع الناس 93 . ولولا إسراع بيعته لأدَّى ذلك إلى فتنٍ واختلافات في جميع الأمصار، فكان من مصلحة المسلمين أن يَقْبَل عليٌّ البيعة مهما كانت الظروف المحيطة بها.
لقد كان مقتل عثمان سببًا مباشرًا في خَلْقِ أزمةِ فتنةٍ كبرى، تضاربت فيها الآراء وتباينت فيها وجهات النظر، واختلفت الاجتهادات في الوسيلة للانتقام من الخوارج الذين قتلوا عثمان .
فقد رأت طائفة من الصحابة أن أوَّل واجب على الأُمَّة هو الثأر لخليفتها الشهيد والقِصاص من القتلة الآثمين، ورأى آخرون أن أول ما ينبغي هو اجتماع الكلمة، واسْتِتْبَاب الأمن، والصبر حتى تهدأ الأحوال وتنكشف ذيول المؤامرة، ثم يكون استئصال شأفتها وقطع دابر دواعيها.
ورأت طائفة ثالثة أن يُؤثروا العافية، وألاّ يكونوا طرفًا في أي نزاع، فبدأ الخلاف بين عليٍّ وطلحة والزبير والسيدة عائشة جميعًا؛ بسبب التعجيل بالقِصاص من قتلة عثمان، ولم يكن خروجهم إلى البصرة إلا لهذا الغرض.
ثم تحرَّك معهم سبعمائة رجل من أهل مكة والمدينة، انضمَّ إليهم بعض المؤيِّدين حتى وصل عددهم ثلاثة آلاف ، بحثًا عن مكان مناسب وأكثر بعدًا عن نفوذ الخلافة، فاتَّجهت أنظارهم إلى البصرة، فحثُّوا أهلها على مساعدتهم في معاقبة قتلة عثمان .
وانقسم مجتمع البصرة إلى قسمين؛ قسم قاتل مع عليٍّ وساند والِيَه عثمان بن حُنَيْف، وقسم آخر تعاطف مع طلحة والزبير وعائشة ، ونتيجة لذلك انهزم عثمان بن حُنَيْف والِيَ البصرة، وتمَّ الاستيلاء على البصرة وقُبض على واليها، وزُجَّ في السجن، ولكن عائشة -رضي الله عنها- تدخَّلت وأطلقت سراحه .
الثأر لمقتل عثمان:
بدأ طلحة والزبير وعائشة إرسال الرسل إلى أهل الشام وأهل اليمامة وأهل المدينة لحثهم على إقامة حدِّ الله على قاتل عثمان ، وعندها قرَّر عليٌّ مغادرة المدينة والاتِّجاه نحو الكوفة لتكون مقرًّا له؛ لكونها في نظره مُسْتَقَرَّ أعلام ورجال المسلمين العظام؛ ففيها أبو موسى الأشعري، وابن مسعود، وغيرهم، فأرسل عليٌّ إلى واليها أبي موسى الأشعري لتجهيز الرجال للقضاء على الفتنة، ولكنَّه تحفَّظ على طلب علي ؛ لأنه كان يرى أن تجهيز الرجال سيُوقِع المسلمين في فتنة (صمَّاء عمياء) كما كان يسمِّيها، فطلب أبو موسى الأشعري من الكوفيين أن يغمدوا سيوفهم ويقبعوا في بيوتهم؛ حتى تزول الفتنة، ولكن عليًّا تجاور أبا موسى الأشعري، فأرسل ابنه الحسن فعزله عن الكوفة، وكوَّن جيشًا منها بلغ تعداده عشرين ألفًا.
ثم اتَّجه صوب البصرة، وبدأ التفاوض مع الزبير وطلحة وعائشة ، فأرسل إليهم طالبًا منهم لمَّ شمل الأمة بعودة الأمور إلى نصابها وإعادة بناء وَحدة المسلمين، ولكن الزبير وطلحة وعائشة كانوا يرَوْن أن الإصلاح لن يتمَّ إلا بالثأر من قتلة عثمان .
وقد أبدى طلحة والزبير مرونة كبيرة إزاء مهمَّة القعقاع خشية وقوع أوَّل مواجهة عسكريَّة بين الإِخْوَة، ثم عاد القعقاع إلى عليٍّ وقد نجح في مهمَّته، وأَخبر عليًّا بما جرى معه، فأُعجب بذلك، وأوشك القوم على الصلح، كرهه من كرهه، ورضيه من رضيه .
علم المتآمرون أتباع ابن سبأ ومَن أعانهم على قَتْل عثمان ببوادر الصلح فقرَّروا إفساده، فاجتمعوا وتشاوروا واختلفوا، ثمَّ اتفقت آراؤهم على أن يفترقوا فرقتين، ويبدءوا بالحرب، فيغير الفريق الذي في معسكر عليٍّ على طلحة والزبير ومن معهما، ثم يقوم الفريق الذي في معسكر طلحة والزبير بإثارة الحمية في نفوسهم؛ حتى تشتد الحرب بين الفريقين فتقع الفتنة كما يريدون .
معركتا الجمل وصفين:
جَرَتْ فتنة معركة الجمل سنة (36هـ) على غير اختيار من عليٍّ ولا من طلحة، وإنما أثارها المفسدون بغير اختيار السابقين .
وانتهت المعركة بهزيمة جيش طلحة والزبير وعائشة، حيث أُصيب الأول بسهم في ركبته، فانسحب من المعركة ليموت في البصرة ، بينما قُتل الزبير، ودارت معركة أمام الجمل الذي يحمل عائشة رضي الله عنها، فتنبه عليٌّ إلى ذلك، فأمر بعقر الجمل، فتوقَّف القتال، وأُعطي البصريون الأمان، ثم أمر علي بحراسة عائشة رضي الله عنها حتى تعود إلى المدينة، وقد مات من جيش البصرة عشرة آلاف ومن جيش عليٍّ خمسة آلاف .
واستقرَّ عليٌّ بالبصر شهرًا، ثم انتقل منها إلى الكوفة، ولما استقرَّ عليٌّ أرسل الصحابي جرير بن عبد الله البَجَلِيَّ إلى معاوية يدعوه إلى بيعته، وكتب معه كتابًا إلى معاوية يُعْلِمه باجتماع المهاجرين والأنصار على بيعته، ويخبره بما كان في معركة الجمل، ويدعوه إلى الدخول فيما دخل فيه الناس .
ولم يكن من سياسة معاوية العجلة، فتأنَّى في هذه المسألة وجمع رءوس أهل الشام يستشيرهم، ثم دعا عمرو بن العاص ليشهد تلك المشورة، فأبوا أن يُبايعوا حتى يُقتل قتلة عثمان، أو أن يُسلَّم إليهم قتلته.
معركة صفين:
أعلم معاويةُ جَرِيرًا برأي أهل الشام، فعاد إلى عليٍّ وأخبره بما قالوا ، فاستعدَّ عليٌّ لغزو الشام؛ لإدخالها في طاعته، فجهَّز جيشًا قوامه خمسين ألفًا ، ونزل بهم صِفِّينَ، وسار معاوية بجيش قِوَامه سِتُّون ألف مقاتل، ثم دار القتال بين الجيشين، ولكنَّه دار في حدود ضيِّقة على هيئة كتائب صغيرة تُرْسَل فتقاتل اليومَ ثم تعود، وقد تجنَّب الجيشان القتال بكامل الجيش؛ خشية الهلاك والاستئصال، وأملاً في وقوع صلح بين الطرفين تُصان فيه الأرواح والدماء .
وما إن دخل شهر محرم حتى بادر الفريقان إلى الهدنة، فأرسل عليٌّ إلى معاوية يدعوه إلى الدخول في الجماعة والمبايعة مرَّة أخرى، ولكن معاوية ردَّ عليه بنفس الردِّ السابق، فعادت الحرب على ما كانت عليه من قتال الكتائب الفرق خشية الالتحام الكُلِّيِّ.
اشتبك الجيشان في معركة فاصلة كثر فيها القتل، وقُتل فيها عمار بن ياسر الذي جاوز التسعين عامًا، ورغم سنِّه كان يستنهض الهمم للحرب, ولكنَّه كان بعيدًا كلَّ البُعد عن الغلوِّ، فقد سمع رجلاً بجواره يقول: كفر أهل الشام. فنهاه عمار عن ذلك، وقال: إنما بَغَوْا علينا، فنحن نقاتلهم لبغيتهم؛ فإلهنا واحد، ونبيُّنا واحد، وقبلتنا واحدة .
وكان أشدُّ أيام القتال هي الأيام التسعة الأخيرة من هذه المعركة، وأشدُّها آخر ثلاثة أيام، لا سيما بعد مقتل عمار بن ياسر ، وفي الليلة التي سُمِّيت بليلة الهرير.
وقد قُتل من جيش عليٍّ بن أبي طالب خمسة وعشرون ألفًا, وقُتل من جيش معاوية بن أبي سفيان خمسة وأربعين ألفًا، أي نصف الجيش, فكان مجموع القتلى والشهداء سبعين ألفًا من كلا الطرفين, ولم يجتمع للمسلمين قطُّ منذ بدء الدعوة ونزول الرسالة حتى هذه اللحظة جيش قوامه سبعون ألفًا, وهو عدد القتلى والشهداء في هذه الموقعة, وكانت خسارة فادحة للمسلمين، لم يتوقَّعها أحد على الإطلاق ممن شارك في القتال, سواءٌ من طرف عليٍّ أو معاوية .
قصة التحكيم وظهور الخوارج:
استمرَّ القتال على أشُدِّه طَوَال الليل, وبدأت الكفَّة ترجح بشدَّة لصالح عليٍّ , وبدأت الهزيمة تدبُّ في جيش معاوية, وكان النصر وشيكًا، عندئذٍ فكَّر "عمرو بن العاص" في حيلة تُخرج جيشه من هذه المشكلة, فأشار على "معاوية" أن يرفع المصاحف, في إشارة إلى تحكيم كتاب الله فيما حدث, وذلك حتى لا يزيد القتل بين المسلمين, ففعل معاوية ذلك, ورضي عليُّ بن أبي طالب وأكثرية جيشه بأمر التحكيم, وأخرج كلا الجيشين رجلاً منهم للتحكيم, فخرج " عمرو" من جيش معاوية, و"أبو موسى الأشعري" من جيش عليٍّ، والتقى أبو موسى الأشعري وعمرو بن العاص -رضي الله عنهما- في مكان (صِفِّين), وبدآ يفكِّران في كيفية إيجاد حلٍّ لهذه المعضلة التي ألمَّت بالمسلمين، فاتَّفقا ابتداءً على كتابة كتابٍ مبدئي يضع أُسُس التحكيم, ولن يكون هو الكتاب النهائي. فكتبوا: "هذا ما تقاضي عليه عليُّ بن أبي طالب, ومعاوية بن أبي سفيان، أننا نزلنا عند حكم الله وكتابه, ونُحْيِي ما أحيا الله, ونميت ما أمات الله, فما وجد الحكمان في كتاب الله عَمِلا به, وما لم يَجِدَا في كتاب الله، فالسُّنَّة العادلة الجامعة غير المتفرِّقة" .
ثم ذهب كلٌّ من الحكمَيْنِ إلى كل فريق على حِدَةٍ, وأَخذا منهما العهود والمواثيق أنهما -أي الحكمين- آمنان على أنفسهما وأهليهما, وأن الأُمَّة كلها عونٌ لهما على ما يريان, وأن على الجميع أن يُطيع ما في هذه الصحيفة. فأعطاهم القوم العهود والمواثيق على ذلك, فجلسا معًا, واتَّفقا على أنهما يجلسان للحُكْم في رمضان من نفس العام، وكان حينئذٍ في شهر صفر سنة (37هـ)؛ وذلك حتى تهدأ نفوس الفريقين، ويستطيع كلُّ فريق أن يتقبَّل الحكم أيًّا كان، وشهد هذا الاجتماع عشرة من كل فريق, وممن شهد هذا الاجتماع عبد الله بن عباس, وأبو الأعور السُّلَمِيُّ, وحبيب بن مسلمة, وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد. وخرج الأشعث بن قيس, والأحنف بن قيس رضي الله عنهما، وهما من فريق عليِّ بن أبي طالب ، وقرأ الأشعث بن قيس الكتاب على الفريقين, فوافق الجميع على هذا الأمر, وبدءوا في دفن الشهداء والقتلى, يقول الزهريُّ: كان يُدفن في كل قبر خمسون نفسًا؛ لكثرة عدد القتلى والشهداء .
كادت الفتنة -بهذا الرأي الأخير حول التحكيم وتهدئة الأوضاع الثائرة- أن تنتهي, إلا أن فرقة من جيش عليٍّ , لما رجعت إلى الكوفة أخذت تُردِّد مقولة: "أتحكِّمون الرجال في دين الله؟" وأعلنوا غضبهم من أمر التحكيم قائلين: لا حكم إلا لله .
ظهور الخوارج:
لما عاد عليُّ بن أبي طالب إلى الكوفة, سمع رجلاً يقول: ذهب عليٌّ ورجع في غير شيء!! وفي هذا لوم له على أمر التحكيم. فقال عليٌّ : لَلَّذِين فارقناهم خيرٌ من هؤلاء، وبلغ عددُ مَن يردِّد كلمة: "لا نحكِّم الرجال في دين الله, ولا حكم إلا لله"، اثني عشر ألف رجل, وكان أكثرهم من حفظة القرآن الكريم, وسُمُّوا بالخوارج؛ لأنهم خرجوا عن طاعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب , وقد تنبَّأ بهذه الطائفة الرسول العظيم ، وهذا من دلائل نبوَّته القائل: "تَمْرُقُ مَارِقَةٌ عِنْدَ فُرْقَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَقْتُلُهَا أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ" .
فلم يكن من عليِّ بن أبي
طالب إلا أن ذهب إليهم ليحاورهم,
ويردَّهم بالتي هي أحسن, وناقشهم فيما أخذوه عليه, ثم أرسل إليهم حَبر الأُمَّة
"عبد الله بن عباس"
, فلما دار هذا الحوار بين
عبد الله بن عباس وبينهم على مدار ثلاثة
أيَّام, رجع منهم أربعة آلاف وتابوا على يديه, وعادوا معه إلى الكوفة, فكانوا مع
عليِّ بن أبي طالب ، أما الباقون الذين
عاندوا ولم يرجعوا عمَّا هم عليه فقد ظلُّوا يتردَّدون على الكوفة، ويتردَّد عليهم
رسلُ عليِّ بن أبي طالب لإقناعهم, ولكن دون
جدوى .
ومع مرور الوقت، وقرب عقد المجلس الذي سيتمُّ فيه التحكيم، بدأ هؤلاء يتعرَّضون لعليِّ بن أبي طالب بما لا يليق، وخرجوا عن دائرة النقاش المهذَّب, وبدءوا بالسباب والشتائم, وعليٌّ يصبر عليهم, ويردُّ عليهم بالتي هي أحسن تجنُّبًا للفتن, واستمرَّ الوضع هكذا يزداد يومًا بعد يوم، حتى قام له رجل منهم, وهو يخطب، فقال له: يا عليُّ، أَشْرَكْتَ الرجالَ في دين الله, ولا حكم إلا لله. وتنادَوْا من كل جانب: لا حكم إلا لله. فقال علي بن أبي طالب : هذه كلمة حقٍّ أُريد بها باطل. ثم قال: إن لكم علينا ألاّ نمنعكم فيئًا ما دامت أيديكم معنا، وألا نمنعكم مساجد الله, وألا نبدأكم بقتال حتى تبدءونا. ثم بدءوا يُعرِّضون بتكفير عليِّ بن أبي طالب , فقابله رجلٌ منهم يومًا، وقال له: يا عليُّ، لئن أشركت ليحبطَنَّ عملك، ولتكونَنَّ من الخاسرين. فقرأ علي بن أبي طالب قول الله تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ} الروم:60 .
ثم اعتزل هؤلاء القوم الكوفة بالكلية, ولجئوا إلى مكان يُسمَّى النهروان، ومكثوا فيه، ولم يدخلوا الكوفة بعد ذلك، فلما رأى أمير المؤمنين عليُّ بن أبي طالب أن أمرهم بدأ يزيد، ويُشكِّل خطورة على المسلمين، بعث إليهم يقول لهم: قد كان من أمرنا وأمر الناس ما قد رأيتم, فقفوا حيث شئتم حتى تجتمع أُمَّة محمد ، وبيننا وبينكم ألاّ تسفكوا دمًا حرامًا, أو تقطعوا سبيلاً أو تظلموا ذميًّا - يهوديًّا أو نصرانيًّا- فإنكم إن فعلتم فقد نبذنا إليكم الحرب على سواء, {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} الأنفال: 58 .
ومكث الخوارج في النهروان بعيدًا عن الكوفة, وفي هذا التوقيت كان جيش الشام مستقرًّا دون خلاف مع معاوية بن أبي سفيان .
اجتماع المحكمين في دومة الجندل:
جاء شهر رمضان سنة (37هـ), فأرسل عليُّ بن أبي طالب إلى دومة الجندل 400 فارس, معهم أبو موسى الأشعري, وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما, وأمَّر عبدَ اللهِ بنَ عبَّاسٍ على الصلاة. وأرسل معاوية 400 فارس إلى أرض دُومَة الجندل، معهم عمرو بن العاص ، وكان معهم من رءوس الناس عبد الله بن الزبير بن العوام رضي الله عنهما، والمغيرة بن شعبة ، وكان معهم أيضًا عبد الله بن عمر بن الخطّاب رضي الله عنهما، ولم يكن مع معاوية في القتال، ولكنه كان ممن اعتزل الفتنة، وإن كان يرى أن عليًّا على الحقِّ, وإنما كان حينئذٍ في الشام، فجاء مع الوفد الذي أرسله معاوية للتحكيم. وقد تمَّ اختيار دُومَة الجندل للتحكيم؛ لأنها تقع في مسافة متوسِّطة بين الكوفة، والشام فهي على بُعْد تسع مراحل من كلٍّ منهما .
وتجمَّع المسلمون على اتِّفاق خلاصته أنهم سيلتقون تارة أخرى في العام المقبل بدُومَة الجندل, وحتى هذا العام يظلُّ لكل من عليٍّ ومعاوية رضي الله عنهما ما تحت أيديهم من بلاد المسلمين، إلا أن الخوارج -عليهم من الله ما يستحقُّونه-لم يَرُقْهم هذا الأمر, ولم يرضَوْا بالتحكيم, بل اشتدَّ أمرهم وخطرهم أكثر, وبلغ بهم الأمر لدرجة تكفير أمير المؤمنين علي بن أبي طالب , واستباحة دمه، هو وكل مَن رضي بالتحكيم .
جمَّع الخوارج قواهم في مكان يُسمَّى النهروان, وقرَّروا الخروج إلى المدائن في شمال شرق الكوفة, لكنهم غيَّروا وجهتهم لقوَّة المدائن ومَنْعَتِها واتَّجهوا إلى مكان آخر قريب من الكوفة، وبدءوا يعيثون في الأرض فسادًا فيقطعون الطرق, ويقتلون المسلمين بحجة أن من رضي بالتحكيم فهو كافر مرتدٌّ يجب قتله ، وقتلوا عبد الله بن خباب بن الأرتِّ, وقتلوا زوجته مع أنها كانت حاملاً .
موقعة النهروان:
فلما زاد فُحشهم وكثرت جرائمهم قرَّر عليُّ بن أبي طالب أن يقاتلهم, فخرج لهم بجيش كبير, ولكنه قبل أن يدخل معهم في قتال أراد أن يجنِّب المسلمين شرَّ القتال بعد ما حدث في موقعتي الجمل وصفِّين, التي قُتِلَ فيهما أعداد كبيرة من المسلمين, فأرسل إليهم مَن يدعوهم للعودة إلى طاعة أميرهم, يحكم بينهم فيَقْتُل مَنْ قَتَل أحدًا من المسلمين, ويعفو عن مَنْ لم يقتل، ولكنهم لم يرتدعوا, ولم يتراجعوا, بل أصرُّوا على موقفهم, وكان عددهم لا يتجاوز أربعة آلاف رجل, وبدأ القتال بين الفريقين, وثبتوا ثباتًا عجيبًا حتى قُتل منهم ستمائة, وجُرح أربعمائة, وبعد انتهاء المعركة سريعًا, سلَّم علي بن أبي طالب الأربعمائة إلى ذويهم ليداووهم, وردَّ أسلابهم, وأعطاهم فرصة أخرى للتوبة, وسُمِّيت هذه المعركة معركة النهروان (38هـ) .
أما في الشام فكان الوضع مختلفًا,؛ فجيش معاوية يطيعه تمامًا, ولم يكن هناك أي حالة خروج عليه , كأن هذا ابتلاء من الله تعالى لعلي بن أبي طالب .
استشهاد علي ومبايعة الحسن بن علي:
لم يكفَّ الخوارج الخروج على عليٍّ وقتاله, بل تآمروا على قتله أيضًا!! فاجتمع ثلاثة منهم على مؤامرة قتل الثلاثة الذين قاموا بالتحكيم, وهم (عليٌّ، وعمرو، ومعاوية), وكان هؤلاء الثلاثة هم: عبد الرحمن بن ملجم الكندي, والبرك بن عبد الله التميمي, وعمرو بن بكر التميمي, وتواعد ثلاثتهم على يوم واحد هو يوم السابع عشر من شهر رمضان لتنفيذ مخطَّطهم، وانتظر عبد الرحمن بن ملجم فجر اليوم الموعود (17 من رمضان سنة 40هـ) حتى خرج عليُّ بن أبي طالب من بيته لصلاة الفجر, وأخذ يمرُّ على الناس يوقظهم للصلاة, وكان لا يصطحب معه حُرَّاسًا, حتى اقترب من المسجد فضربه شبيب بن نجدة ضربة وقع منها على الأرض, لكنه لم يمُتْ منها, فأمسك به ابن ملجم, وضربه بالسيف المسموم على رأسه, فسالت الدماء على لحيته، ومات شهيدًا ، في حين فشل الآخرون في قتل معاوية وعمرو بن العاص رضي الله عنهما.
الحسن خليفة للمسلمين:
لما استُشهد عليُّ بن أبي طالب اجتمع أهل العراق، وبايعوا الحسن بن عليٍّ رضي الله عنهما؛ ليكون خليفةً للمسلمين، فكان ورعًا تقيًّا عالمًا مجاهدًا، حيث جاء قيس بن سعد بن عبادة -وكان تحت إمرته على أَذْرَبِيجَان أربعون ألف مقاتل كلهم قد بايع عليًّا على الموت قبل استشهاده- فجاء يقول للحسن : امددْ يدك نُبَايِعْك. فلم يردَّ عليه الحسن، ولم يرضَ بهذا الأمر، ولم يكن يريده؛ لأنه يعلم أن وراءه الدماء الكثيرة، ولكن مع إصرار قيس بن سعد بن عبادة قَبِل البيعة (17 من رمضان سنة 40هـ)، وهو يوم وفاة علي بن أبي طالب .
أمَّا أهل الشام فبعد استشهاد عليِّ بن أبي طالب لم يجدوا بديلاً لخلافة المسلمين غير معاوية بن أبي سفيان ، فبويع بالخلافة من قِبَل أهل الشام، وأصبح للمسلمين -ولأول مرَّة- خليفتان؛ أحدهما في الشام، والآخر في العراق، وهذا لا يستقيم شرعًا، ولا يصحُّ في الإسلام، بل ينبغي أن يكون للمسلمين خليفة واحد، يسمع له الجميع ويطيع.
تنازل الحسن بن علي عن الخلافة:
التحرك نحو الشام:
كان الحسن بن علي لا يحبُّ القتال، فلما تولَّى الخلافة رغِب في الكفِّ عن القتال، وحقن الدماء، وعدم الدخول في معارك بين المسلمين، لكنَّ أهل العراق أصرُّوا على قتال أهل الشام وعلى رَدِّ الإمارة إلى العراق، وثاروا كعادتهم عليه ، واجتمعت الألوف المؤلَّفة على أمر قتال أهل الشام، والقتال وإن كان له تأويل شرعي، إلا أنَّ فيه مخالفة للإمام، وقد خَشِيَ الحسن من فتنة مخالفة كل هذه الجموع، فخرج على رأس جيش لقتال أهل الشام وهو كارهٌ لهذا الأمر، وعَلِمَ معاوية بخروجه فخرج له بجيشه.
وعند اقتراب الجيشيْن كان الصراع شديدًا في داخل نفس الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، فهو غير راغب في القتال، ويريد أن يحقن دماء المسلمين، فأرسل رسائل إلى معاوية بن أبي سفيان
ومع مرور الوقت، وقرب عقد المجلس الذي سيتمُّ فيه التحكيم، بدأ هؤلاء يتعرَّضون لعليِّ بن أبي طالب بما لا يليق، وخرجوا عن دائرة النقاش المهذَّب, وبدءوا بالسباب والشتائم, وعليٌّ يصبر عليهم, ويردُّ عليهم بالتي هي أحسن تجنُّبًا للفتن, واستمرَّ الوضع هكذا يزداد يومًا بعد يوم، حتى قام له رجل منهم, وهو يخطب، فقال له: يا عليُّ، أَشْرَكْتَ الرجالَ في دين الله, ولا حكم إلا لله. وتنادَوْا من كل جانب: لا حكم إلا لله. فقال علي بن أبي طالب : هذه كلمة حقٍّ أُريد بها باطل. ثم قال: إن لكم علينا ألاّ نمنعكم فيئًا ما دامت أيديكم معنا، وألا نمنعكم مساجد الله, وألا نبدأكم بقتال حتى تبدءونا. ثم بدءوا يُعرِّضون بتكفير عليِّ بن أبي طالب , فقابله رجلٌ منهم يومًا، وقال له: يا عليُّ، لئن أشركت ليحبطَنَّ عملك، ولتكونَنَّ من الخاسرين. فقرأ علي بن أبي طالب قول الله تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ} الروم:60 .
ثم اعتزل هؤلاء القوم الكوفة بالكلية, ولجئوا إلى مكان يُسمَّى النهروان، ومكثوا فيه، ولم يدخلوا الكوفة بعد ذلك، فلما رأى أمير المؤمنين عليُّ بن أبي طالب أن أمرهم بدأ يزيد، ويُشكِّل خطورة على المسلمين، بعث إليهم يقول لهم: قد كان من أمرنا وأمر الناس ما قد رأيتم, فقفوا حيث شئتم حتى تجتمع أُمَّة محمد ، وبيننا وبينكم ألاّ تسفكوا دمًا حرامًا, أو تقطعوا سبيلاً أو تظلموا ذميًّا - يهوديًّا أو نصرانيًّا- فإنكم إن فعلتم فقد نبذنا إليكم الحرب على سواء, {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} الأنفال: 58 .
ومكث الخوارج في النهروان بعيدًا عن الكوفة, وفي هذا التوقيت كان جيش الشام مستقرًّا دون خلاف مع معاوية بن أبي سفيان .
اجتماع المحكمين في دومة الجندل:
جاء شهر رمضان سنة (37هـ), فأرسل عليُّ بن أبي طالب إلى دومة الجندل 400 فارس, معهم أبو موسى الأشعري, وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما, وأمَّر عبدَ اللهِ بنَ عبَّاسٍ على الصلاة. وأرسل معاوية 400 فارس إلى أرض دُومَة الجندل، معهم عمرو بن العاص ، وكان معهم من رءوس الناس عبد الله بن الزبير بن العوام رضي الله عنهما، والمغيرة بن شعبة ، وكان معهم أيضًا عبد الله بن عمر بن الخطّاب رضي الله عنهما، ولم يكن مع معاوية في القتال، ولكنه كان ممن اعتزل الفتنة، وإن كان يرى أن عليًّا على الحقِّ, وإنما كان حينئذٍ في الشام، فجاء مع الوفد الذي أرسله معاوية للتحكيم. وقد تمَّ اختيار دُومَة الجندل للتحكيم؛ لأنها تقع في مسافة متوسِّطة بين الكوفة، والشام فهي على بُعْد تسع مراحل من كلٍّ منهما .
وتجمَّع المسلمون على اتِّفاق خلاصته أنهم سيلتقون تارة أخرى في العام المقبل بدُومَة الجندل, وحتى هذا العام يظلُّ لكل من عليٍّ ومعاوية رضي الله عنهما ما تحت أيديهم من بلاد المسلمين، إلا أن الخوارج -عليهم من الله ما يستحقُّونه-لم يَرُقْهم هذا الأمر, ولم يرضَوْا بالتحكيم, بل اشتدَّ أمرهم وخطرهم أكثر, وبلغ بهم الأمر لدرجة تكفير أمير المؤمنين علي بن أبي طالب , واستباحة دمه، هو وكل مَن رضي بالتحكيم .
جمَّع الخوارج قواهم في مكان يُسمَّى النهروان, وقرَّروا الخروج إلى المدائن في شمال شرق الكوفة, لكنهم غيَّروا وجهتهم لقوَّة المدائن ومَنْعَتِها واتَّجهوا إلى مكان آخر قريب من الكوفة، وبدءوا يعيثون في الأرض فسادًا فيقطعون الطرق, ويقتلون المسلمين بحجة أن من رضي بالتحكيم فهو كافر مرتدٌّ يجب قتله ، وقتلوا عبد الله بن خباب بن الأرتِّ, وقتلوا زوجته مع أنها كانت حاملاً .
موقعة النهروان:
فلما زاد فُحشهم وكثرت جرائمهم قرَّر عليُّ بن أبي طالب أن يقاتلهم, فخرج لهم بجيش كبير, ولكنه قبل أن يدخل معهم في قتال أراد أن يجنِّب المسلمين شرَّ القتال بعد ما حدث في موقعتي الجمل وصفِّين, التي قُتِلَ فيهما أعداد كبيرة من المسلمين, فأرسل إليهم مَن يدعوهم للعودة إلى طاعة أميرهم, يحكم بينهم فيَقْتُل مَنْ قَتَل أحدًا من المسلمين, ويعفو عن مَنْ لم يقتل، ولكنهم لم يرتدعوا, ولم يتراجعوا, بل أصرُّوا على موقفهم, وكان عددهم لا يتجاوز أربعة آلاف رجل, وبدأ القتال بين الفريقين, وثبتوا ثباتًا عجيبًا حتى قُتل منهم ستمائة, وجُرح أربعمائة, وبعد انتهاء المعركة سريعًا, سلَّم علي بن أبي طالب الأربعمائة إلى ذويهم ليداووهم, وردَّ أسلابهم, وأعطاهم فرصة أخرى للتوبة, وسُمِّيت هذه المعركة معركة النهروان (38هـ) .
أما في الشام فكان الوضع مختلفًا,؛ فجيش معاوية يطيعه تمامًا, ولم يكن هناك أي حالة خروج عليه , كأن هذا ابتلاء من الله تعالى لعلي بن أبي طالب .
استشهاد علي ومبايعة الحسن بن علي:
لم يكفَّ الخوارج الخروج على عليٍّ وقتاله, بل تآمروا على قتله أيضًا!! فاجتمع ثلاثة منهم على مؤامرة قتل الثلاثة الذين قاموا بالتحكيم, وهم (عليٌّ، وعمرو، ومعاوية), وكان هؤلاء الثلاثة هم: عبد الرحمن بن ملجم الكندي, والبرك بن عبد الله التميمي, وعمرو بن بكر التميمي, وتواعد ثلاثتهم على يوم واحد هو يوم السابع عشر من شهر رمضان لتنفيذ مخطَّطهم، وانتظر عبد الرحمن بن ملجم فجر اليوم الموعود (17 من رمضان سنة 40هـ) حتى خرج عليُّ بن أبي طالب من بيته لصلاة الفجر, وأخذ يمرُّ على الناس يوقظهم للصلاة, وكان لا يصطحب معه حُرَّاسًا, حتى اقترب من المسجد فضربه شبيب بن نجدة ضربة وقع منها على الأرض, لكنه لم يمُتْ منها, فأمسك به ابن ملجم, وضربه بالسيف المسموم على رأسه, فسالت الدماء على لحيته، ومات شهيدًا ، في حين فشل الآخرون في قتل معاوية وعمرو بن العاص رضي الله عنهما.
الحسن خليفة للمسلمين:
لما استُشهد عليُّ بن أبي طالب اجتمع أهل العراق، وبايعوا الحسن بن عليٍّ رضي الله عنهما؛ ليكون خليفةً للمسلمين، فكان ورعًا تقيًّا عالمًا مجاهدًا، حيث جاء قيس بن سعد بن عبادة -وكان تحت إمرته على أَذْرَبِيجَان أربعون ألف مقاتل كلهم قد بايع عليًّا على الموت قبل استشهاده- فجاء يقول للحسن : امددْ يدك نُبَايِعْك. فلم يردَّ عليه الحسن، ولم يرضَ بهذا الأمر، ولم يكن يريده؛ لأنه يعلم أن وراءه الدماء الكثيرة، ولكن مع إصرار قيس بن سعد بن عبادة قَبِل البيعة (17 من رمضان سنة 40هـ)، وهو يوم وفاة علي بن أبي طالب .
أمَّا أهل الشام فبعد استشهاد عليِّ بن أبي طالب لم يجدوا بديلاً لخلافة المسلمين غير معاوية بن أبي سفيان ، فبويع بالخلافة من قِبَل أهل الشام، وأصبح للمسلمين -ولأول مرَّة- خليفتان؛ أحدهما في الشام، والآخر في العراق، وهذا لا يستقيم شرعًا، ولا يصحُّ في الإسلام، بل ينبغي أن يكون للمسلمين خليفة واحد، يسمع له الجميع ويطيع.
تنازل الحسن بن علي عن الخلافة:
التحرك نحو الشام:
كان الحسن بن علي لا يحبُّ القتال، فلما تولَّى الخلافة رغِب في الكفِّ عن القتال، وحقن الدماء، وعدم الدخول في معارك بين المسلمين، لكنَّ أهل العراق أصرُّوا على قتال أهل الشام وعلى رَدِّ الإمارة إلى العراق، وثاروا كعادتهم عليه ، واجتمعت الألوف المؤلَّفة على أمر قتال أهل الشام، والقتال وإن كان له تأويل شرعي، إلا أنَّ فيه مخالفة للإمام، وقد خَشِيَ الحسن من فتنة مخالفة كل هذه الجموع، فخرج على رأس جيش لقتال أهل الشام وهو كارهٌ لهذا الأمر، وعَلِمَ معاوية بخروجه فخرج له بجيشه.
وعند اقتراب الجيشيْن كان الصراع شديدًا في داخل نفس الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، فهو غير راغب في القتال، ويريد أن يحقن دماء المسلمين، فأرسل رسائل إلى معاوية بن أبي سفيان
يطلب منه أن يرجع عن رأيه،
ويدخل في جماعة المسلمين ويبايعه على الخلافة، لكن معاوية
كان يرى أنَّ هذه فرصته
التي ربما لا تتكرَّر لأخذ الثأر من قتلة عثمان بعد أن يكون أميرًا على جميع
المسلمين، وكان جيش العراق القادم مع الحسن بن علي جيشًا ضخمًا كبيرًا، وخاصَّة
بعد أن قُتل النصف من جيش معاوية
في موقعة صفِّين، وكانوا
راغبين في القتال، وقد بايعوا الحسن على الموت.
وعندما رأى معاوية ضخامة جيش الحسن، قرَّر أن يرسل رسوليْن للمحاورة والمشاورة، فأرسل إليه عبد الرحمن بن سمرة وعبد الله بن عامر، فذهبا إليه وجلسا معه.
فقال الحسن : إن هذه الأمة قد عاثت في دمائها.
فقال له الرسولان: إنه يعرض عليك كذا وكذا، ويطلب إليك ويُسالمك.
فقال الحسن: فمن لي بهذا؟
فقالا له: نحن لك بهذا. فسُرَّ بذاك الحسن، وكان يرغب في هذا الأمر .
تنازل الحسن عن الخلافة :
قرَّر الحسن بن علي بن أبي طالب أن يقوم بخطوة من أخطر الخطوات في تاريخ الأُمَّة الإسلاميَّة، وهي خطوة جريئة لا يُقْدِم عليها إلاَّ رجل ذو نفس طاهرة طيِّبَة كالحسن ، فقرَّر أن يتنازل عن الخلافة لمعاوية بن أبي سفيان ، وهو راضٍ تمامًا، وهو في غاية القوَّة، فقد كان جيشه يَفُوقُ جيش الشام بكثير، وكان باستطاعته أن يُبِيد جيش الشام عن آخره، ولكنَّه أراد أن يحقن الدماء بتنازله عن الخلافة لمعاوية .
فأرسل الحسن رسالة إلى معاوية بتنازله عن الخلافة على أن تُحقن دماء المسلمين، وعلى أن ترجع الجيوش دون قتال ودون حرب, وبهذا أصبح معاوية بن أبي سفيان أمير المؤمنين الشرعي بعد الحسن بن عليٍّ ، الذي ظلَّ أميرًا شرعيًّا للمسلمين مدَّة ستَّة أشهر.
وصدق فيه حديث أبي بَكْرَةَ الذي قال فيه: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ عَلَى الْمِنْبَرِ وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ إِلَى جَنْبِهِ، وَهُوَ يُقْبِلُ عَلَى النَّاسِ مَرَّةً وَعَلَيْهِ أُخْرَى، وَيَقُولُ: "إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ" .
وعندما رأى معاوية ضخامة جيش الحسن، قرَّر أن يرسل رسوليْن للمحاورة والمشاورة، فأرسل إليه عبد الرحمن بن سمرة وعبد الله بن عامر، فذهبا إليه وجلسا معه.
فقال الحسن : إن هذه الأمة قد عاثت في دمائها.
فقال له الرسولان: إنه يعرض عليك كذا وكذا، ويطلب إليك ويُسالمك.
فقال الحسن: فمن لي بهذا؟
فقالا له: نحن لك بهذا. فسُرَّ بذاك الحسن، وكان يرغب في هذا الأمر .
تنازل الحسن عن الخلافة :
قرَّر الحسن بن علي بن أبي طالب أن يقوم بخطوة من أخطر الخطوات في تاريخ الأُمَّة الإسلاميَّة، وهي خطوة جريئة لا يُقْدِم عليها إلاَّ رجل ذو نفس طاهرة طيِّبَة كالحسن ، فقرَّر أن يتنازل عن الخلافة لمعاوية بن أبي سفيان ، وهو راضٍ تمامًا، وهو في غاية القوَّة، فقد كان جيشه يَفُوقُ جيش الشام بكثير، وكان باستطاعته أن يُبِيد جيش الشام عن آخره، ولكنَّه أراد أن يحقن الدماء بتنازله عن الخلافة لمعاوية .
فأرسل الحسن رسالة إلى معاوية بتنازله عن الخلافة على أن تُحقن دماء المسلمين، وعلى أن ترجع الجيوش دون قتال ودون حرب, وبهذا أصبح معاوية بن أبي سفيان أمير المؤمنين الشرعي بعد الحسن بن عليٍّ ، الذي ظلَّ أميرًا شرعيًّا للمسلمين مدَّة ستَّة أشهر.
وصدق فيه حديث أبي بَكْرَةَ الذي قال فيه: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ عَلَى الْمِنْبَرِ وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ إِلَى جَنْبِهِ، وَهُوَ يُقْبِلُ عَلَى النَّاسِ مَرَّةً وَعَلَيْهِ أُخْرَى، وَيَقُولُ: "إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ" .